إن كان في بيتك أم جديدة.. فأتح لها الفرصة لتضعف، دعها تبكي وقتما تريد، تصرخ بهواجسها، فربما إن كتمت الصراخ نفخها كحَمْلٍ جديد، وسيأكل ملح الدموع قلبها.
إن كان في بيتك أم جديدة.. فأفسح لها الطريق لتخطئ، لتمرض، لتطلب الدعم، لتغضب، لتصرخ وتبكي.
إن كان في بيتك أم لأول مرة فاترك لها حضنًا تبكي فيه دون صخب أسئلتك وتمنطق تحليلاتك، قبل أن ينفجر رحم عقلها بوليد لن يحتمل صراخه أحد.. اترك لها مساحة للحزن تفرّغ فيها أوجاعًا ومخاوف قد لا تفهم الكثير منها، حتى لا تنام بحزنها وخوفها ليلة بعد ليلة فينضح بياضًا على شعرها وتجاعيد على وجهها واقتضابًا وجفافًا على كلماتها.
اترك لها مساحة للضعف والخطأ دون أصابع اتهام؛ يكفيها ما يفعله بها قلبها إذا ما تعب الوليد.
احمل عنها الطفل إن ابتغت الخروج بالكعب العالي، حتى لا تُحرَم حقها في السقوط والتبعثُر ثم القيام وإكمال الطريق من جديد خفيفة.9
جهّز رضعة الأعشاب اليومية إذا ما أفسدت دموعها اللبن.. غيّر الحفاضة إذا ما طغت رائحة قلبها عليها.. غنِّ للطفل أغنيته المفضلة إن كتم الخوف صوتها.
مع عودتك من العمل أحضر لها الزبادي بفواكهها المفضلة، أو مخبوزات بالجبنة تسد أغوار التفكير في المجهولات، وأدفئ لها مشاعرها بكوب شراب شتوي يمسح ندوب الخوف على عقلها.
يكفي عيشها في بلاد لا تعرف معنىً لاكتئاب الحمل، ولا جلسات المساندة للأمهات الجديدات ولا رعاية نفسية وربما صحية أيضًا، يكفي عيشها بين نساء يستكثرن عليها النوم وصبغات الشعر والأفلام.
الأم الجديدة احتملت أشهر حمل تنفخ بطنها وتورِّم قدميها حتى تعصى على الأحذية، احتملت عبث الهرمونات برأسها حتى تنطق ما لا تقصد وتقصد ما لا تنطق، وملابس تأبى أن تحشرها بين جنباتها، وأقراص مقويات لا عدد لها وفقدان الاشتهاء رغم الجوع المتواصل.. الأم الجديدة جرّبت تمزُّع جسدها أو شقه بمشرط، واحتملت لتلمس وليدها.. ذُعر من كل صرخة للوليد، صيدلية متنقلة تتحرك فقط إذا ما فكّرت في زيارة الجدة، صعوبة في الحركة، صعوبة في تنظيم الوقت، صعوبة في التواصل مع غير الأمهات، صعوبة في استقبال المبهجات.
ولكن صعوبة الأمومة ليست في كل تلك الأوجاع.. فكلها تعرف أنها ستمر، ما لا تعرفه الأم الجديدة هو متى سأمارس الضعف؟ كيف أبكي وعلى كتفي طفلة لا تعرف من العالم سوى وجهي؟ كيف أمرض أو أرقد أو أكتئب وتلك الوليدة تأكل من صدري وتضحك من وجهي وتطمئن من قلبي؟ متى سأسقط في صراخ طويل يفرغ كل ما تعبأت به ولا أنتهي إلا وروحي نظيفة من الخوف الوجع؟
أفكر في نهاية لهذا.. بعد شهر.. شهرين.. عام.. خمسة…
أتذكر يوم بكت أمي فرسبت في امتحان الحساب، يوم غضبت أمي فخسرت مجموعي في الثانوية، يوم مرضت أمي فجاءني إنذار من العمل.
كلما خفت تصاب طفلتي باضطرابات نوم، كلما بكيت تغيّر طعم اللبن وجفّ ولم يكفِ الرضيعة، كلما غضبت صرخت هي ورغبت في الهز والحمل.
أول أسبوع بعد الولادة كنت لا أقوى على الجلوس ولا النوم ولا الوقوف.. ثم شهر كامل لا أنام أكثر من ساعتين متواصلتين تختار وقتهما نجمتي الوليدة.
فجأة المرأة الشغوفة بالحياة بكل خططها وأحلامها للمستقبل، بكل بهجاتها وجلجلة ضحكها.. تتحول إلى المربية، فقط مربية، لا فرصة للعمل، للسهر، للأحلام، للكتابة، للسفر، للخطط المستقبلية.
المرأة التي تُفضّل الجلوس في المقهى وحيدة أوقات المطر، أصبحت كل إطلالة لها خارج قوقعة البيت تحتاج ترتيبات كثيرة، توقيت مناسب في يوم غير بارد، غير حار، غير ممطر، غير مترّب، مكان مقفول اتقاءً للبرد وبه حمام مناسب للرضاعة، ملابس سهلة مع الإرضاع، الجاكيت الثقيل للبنت مغسول وملائم للخروجة ولباقي الملابس، شنطة بها غيار للطفلة وأدوية للحالات الطارئة، مبلغ مناسب لأجرة تاكسي ذهاب وعودة.. فقط من أجل التهوية مدة ساعتين لن تنالهما وحدها أبدًا.
خوف من المسؤوليات والاعتماد الكامل عليّ، خوف من تربية بنت في شوارع القاهرة القاهرة، خوف من التعليم، الصحة، التنشئة، المصاريف.
كل هذا منه ما مر ومنه ما سيمر، وأواصل، أعرف أن شهرًا وراء آخر وتنتهي تلك الأعباء الشكلية أو أتكيّف معها وأرتب حياتي عليها.. فقط الضعف ما أعرف أنه لم يعد مسموحًا به، لا فرصة للخطأ.. للمرض.. للبكاء.
فإن كان في بيتك أم جديدة.. أم لأول مرة.. فقط دعها تضعف وتقع، وكن موجودًا لتستند عليك وهي تقف من جديد لتهدهد الطفل.