أوجاع خاصة تحكيها الأمهات الوحيدات

620

بقلم/ سارة خيري

يقولون إن الحزن يولد كبيرًا ويصغر مع الوقت، ربما الحزن كذلك، ولكن هناك مشاعر تزداد مرارة مع الوقت، مثل الخذلان والوحدة والألم. هذه مشاعر نتعلم أن نتقبلها كلما تجددت، بل ونتعايش معها كجزء أصيل من الحياة. هذا ما اختبرته نساء كثيرات كُتب عليهن أن يكُنَّ “سينجل ماذرز” ويحملن الهموم في قلوبهن وبين أضلعهن، بينما يغزلن لأولادهن حياةً أكثر إشراقًا.

(1)

تركني لأسباب لم أعلمها حتى الآن، ولكن عندما ترك الأولاد شعرت أنه يعاقبهم لأنهم جزء مني ليس أكثر.

الشعور الذي أذكره عبر السنوات هو الإرهاق، الإرهاق الذي لم يتح لي الفرصة حتى لتتبع أخبار طليقي، حتى بعد أن علمت بزواجه الجديد، لم تكن هناك فرصة للحزن، كنت مرهقة الذهن والجسد.

 بعد رحيله كنت أفكر كل يوم حتى ينقضي اليوم، مجهدة من إسعاد الناس لأني لم أقو على دفع ثمن إغضابهم، وقلبي يعتصر وأنا أتخيل ابنتي الصغيرة تقف كالمذنبين في المدرسة لتأخُّري عن سداد المصاريف الدراسية وأدوات الدراسة، ومرهقة من عمل حكومي كل ما يربطني به هو خوفي أن أفقد لقمة لأولادي الثلاثة.

 اليوم أنا جدة وأشعر بالراحة التي تحلو بعد سنوات من التعب، عندما أشاهد أحفادي معي وأبنائي مع أزواجهم. لا بد أن أعترف أني ربما ربيت بداخلهم عقدة ما، وأنا أربيهم لأني لم أكن بالوعي الكافي، للحفاظ على نفسيتهم من الكسر، ولكني أظن أنهم يقدرّون أني فعلت ما استطعت وهذا كل ما في الأمر.

 (2)

أكثر ما عانيته في هذه التجربة هو الشعور بالوحدة، وأنا لا أعني ذلك السواد الذي خيم على غرفتي كل مساء طيلة سبع سنوات فقط، ولكن شعوري بأنه لا يوجد حتى من أشكو له وألومه أو حتى أحمّله ذنب ما يجري معي كل نهار.

عندما كُسِرَت ساقي شعرت ببُعد آخر للوحدة، كأن أحدهم ضغط على زر إيقاف لحياتي دون استئذان. فلم يذهب ابني إلى المدرسة ولا النادي، ولم أزُر المطبخ قط واعتمدت على الديلفري.

 في اليوم الثالث انهرت تمامًا عندما أدركت أني لن أتمكن من الاستناد على مكالمة زوجي الباردة للاطمئنان على صحتي عبر البحار، وأن هذه المكالمة لن تتمكن من استرجاع روتين حياتي الطاحن ولا حياة ابني، وأن الحياة غير مستقيمة بالمرة طالما أنه هنا يأخذ حظه معي من الأعباء والمسؤوليات، وأن انتظاري لجرس التليفون يوميًا ليس إلا اتكاءً على حبل.

شعرت بتحقق كل شروط الزواج من مجهود وتعب إلا المشاركة فلم تحدث قط.

كل من حولي يزيدون وحدتي بكلماتهم عن ضرورة التماسك لأكون أمًا جيدة، فيزداد خوفي بأني لست أمًا جيدة بالقدر الكافي، خصوصًا بعد أن فُرِض عليَّ أن أكون أمًا وأبًا في نفس الوقت، فتنتهي بي الحال كل ليلة أني نصف أب ونصف أم وأتمتم داعية: يا رب أكون النصف الأفضل على الأقل.

(3)

أكثر ما أشعر به هو الفزع من فكرة الانتظار إلى متى سأظل وحدي، هل سأتمكن من الاستمرار في دور لم أختر أن ألعبه؟ هل سأتزوج مرة أخرى؟ وإذا تزوجت هل سيحب طفليّ الحبيبين أم سيعذبهما على غرار المسلسلات والأفلام؟ خصوصًا بعد أن تخلت عني صديقاتي المتزوجات، تمامًا كما يحدث في السينما.

أشعر أني صغيرة على حمل هذه الهموم، لا بد أن أكون أمًا جدية ولا مفر، لن أستطيع أن أستقيل من هذا المنصب. ولا تسيئي فهمي، أنا أحب كوني أمًا لكن لا أحب هذا الدور وأنا وحيدة ومصدومة.

ليس هناك من يرد على أسئلتي السابقة، ولن أستطيع التكهُّن أيضًا بعد أن انفصلت عن حب دام سنوات الجامعة وما بعدها إلى أن تم الزواج. كبرت ولم يكبر هو، وتحملت المسؤولية التي رفضها، فرحل.

الطريق طويل أمامي ومبهم المعالم، ولكني مجبرة على السير والعمل والتأنق حتى لا أفقد فرصة حب جديدة. الأمر مفزع وربما أعتاد عليه يومًا ما، أما اليوم فأنا مفزوعة.

(4)

أربع بنات وولد هم ما تبقى منه بعد رحيله إلى السماء، هذا هو الإرث الذي تركه لي. كان عاملاً نحيا على يوميته وكما ترين أنا امرأة لم أتعلم حتى القراءة والكتابة وأهلي في أقاصي الصعيد ليسوا في حال أفضل مني.

بعد أن مات زوجي لم يكن هناك أي شعور طغى عليَّ، أنا فقدت الإحساس ربما.

كان كل همي هو التفكير كيف سأطعم هؤلاء وكيف سأتمكن من دفع أقساط الجمعية المتبقية، وأنا أعاني من زيادة في الوزن تمنعني من التحرك والبيع والشراء، وهذا ليس أمرًا حديثًا فقد كنت كذلك منذ الأزل.

 لم أجد اختيارًا سوى أن أصلب عودي الذي يستند عليه الصغار، فخبزت كل ما أعرفه وقمت ببيعه لجيران الشارع. كل الإمكانيات التي كانت معي هي أولادي فأرسلتهم كل يوم إلى الفرن في دوريات منظمة لتسوية المخبوزات حتى اشتريت الفرن الكبير، وضعته في أقصى الشقة وقضيت هناك معظم أيامي أخبز “الرقاق” الذي اشتهرت به في المنطقة.

 بعد سنوات طويلة بدأت أشتاق إلى التسلية، فعشقت اللب واستراحتي أمام باب المنزل للتحدث مع الجارات بعد نهارات قضيتها أمام لهيب الفرن.

أنا أحكي اليوم كل هذه الصعوبات لتروينها في سطور ضئيلة، لكن في النهاية أشعر بالرضا والبطولة لأني لم أنهزم ولم أفكر في الهزيمة، لأنها لم تكن اختيارًا من الأساس.

 بعد أن استمعت إلى هذه القصص ودوَّنتها أدركت أن البعاد يُخلّف وجعًا لا يزول ولا بالحضور، وبالتالي فهو وجع أبدي، وأن كل الـ”السينجل ماذرز” في حاجة إلى مزيد من الطبطبة والاحتواء، مزيد من طمأنة الروح ليس أكثر، في حاجة لأصابع أقل تشير إليهن باللوم والتنظير المبالَغ، هؤلاء السيدات وغيرهن في حاجة لأن نقل خيرًا أو لنصمت، بدلاً من أن نزيد حياتهن الملتهبة جحيمًا على الجحيم.

المقالة السابقةالمسلسلات الأكثر انتظارًا في رمضان 2018
المقالة القادمةللسينجل ماذر: كيف تتجنبين علاقة بائسة مع أولادك؟
نون
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا