أهلي ندروني للشمس وللطرقات

778

كامليا

 

قبل ثلاث سنوات من اليوم كنت أستمع لأغنية فيروز وأنا أتجه بخطى حماسية ثابتة نحو بوابة مطار القاهرة، ارتدي حقيبة الظهر
البنفسجية، وبعض المتعلقات الشخصية ومعطفًا وهاتفًا وكاميرا مستعدة لتسجيل أول مغامرة لي خارج البلاد، برفقة أصدقاء العمر
والعمل.

وأنا أكتب هذه الكلمات الآن، ما زلت أشعر بنفس الحماسة والترقب والسعادة التي كنت أعيشها حينها، منذ أن اقترحت صديقتي "هاجر"
السفر، حتى إجراءات إنهاء الأوراق المطلوبة، استخراج الفيزا، موافقة الأهل بدون عقبات، وحزم الحقائب والجلوس في صالة المطار
أحتسي قهوتي لأول مرة وأنا على أعتاب تجربة مختلفة تمامًا، أنا الفتاة التي كانت تخشى مرور الطائرات فوق المنزل، الآن على وشك
ركوب إحداها والتحليق بعيدًا جدًا، بمفردي دون الأهل، في بلد في الجهة الأخرى من العالم.

أبتسم حين تصل الأغنية للجزء المفضل لي دائمًا "أنا عصفورة الساحات.. أهلي ندروني للشمس وللطرقات.. لسفر الطرقات".

مررت بتجربة السفر وكل ما كُتب عنها، كنت محظوظة بصُحبة السفر، منذ أن وطأت قدمي مطار الدولة الأجنبية، وعلمت أنني أنتمي
إلى الترحال، ونويت أن أذهب لبلاد أحلامي واحدة تلو الأخرى، لم يكن لديّ حينها حبيب أو ابنة، أو بمعنى أدق لم أكن أعلم أنني سأعود
لألتقي بالحبيب بعد غياب 5 سنوات.

تزوجت وأنجبت، وما زلت أحلم بالمغامرة الثانية، ما زلت أخطط يوميًا لوجهتي المقبلة، ولم تغب أحلام السفر عني لحظة واحدة.

أنجبت طفلة كالفراشة، أحدثها يوميًا عن رغبتي في السفر والترحال بها لبلاد الهند والسند، تضحك طفلتي التي لا تعي من كلامي شيئًا
سوى الحماس ولمعة العينين، أهدهدها لتنام وأبدأ رحلتي في مواقع الإنترنت المخصصة للسفر، أضع قائمة بالبلاد التي أرغب في
زيارتها، والميزانية، وأفضل توقيتات السفر، وأبرز المعالم السياحية.

أنظر لابنتي في حب وأتذكر أنها ما زالت صغيرة جدًا لاتخاذ هذه الخطوة، ربما بعد انتهاء التطعيمات الأساسية، أو فترة التسنين..، أو…
أو… أو… يقاطعني زوجي داعمًا ومشجعًا، أننا سنفعلها قريبًا ونسافر بها، وستتكرر السفريات وهي معنا حول العالم. نحلم يوميًا؛ الأحلام
مجانية وممتعة، ولكن الواقع محبِط في أغلب الأحيان.

ينظر البعض لي، كوني أمًا فهذا لا يعطيني الحق في الحلم بالسفر والترحال، وأنظر لهم في تحدٍّ صريح.. كوني أمًا لن يعقيني عن
الأحلام والسفر والمغامرة، وقد ندرت طفلتي أيضًا لـ"سفر الطرقات".

بعد شهور أتخذ خطوات جدّية في استخراج جواز سفر للطفلة وآخر جديد لي، رغم أن حلم السفر ما زال بعيدًا بعض الشيء، ولكنني
أشعر باقترابه، أو بمعني أدق أسعي لتحقيقه، أعلم أنني سأستيقظ يومًا على فرصة مفاجئة للسفر كما حدث سابقًا، وعليّ أن أستعد جيدًا
للمغامرة، لا أستمع لعبارات الأهل في أن أترك طفلتي وأذهب لمغامراتي وحدي.. أترك من؟ فراشتي؟!

رغم كل التعب والمسؤولية، كنت أنتظرها لتصبح شريكة مغامراتي وأحلامي، كنت أنتظر وصول طفلتي للعالم لنكتشفه معًا، وعدتها منذ
كانت في رحمي أن نحتسي يومًا قريبًا قهوتنا في مطار شرق أسيا، وأن نذهب لجلسة تأمُّل في الهند، وأن آخذها مرّة أخرى لتركيا حيث
مغامرتي الأولى المنفردة، لذا كان اقتراح تركي لها أمرًا مرفوضًا، رغم أنه سيبدو جنونيًا للبعض، سأواجه عبارات من نوعية "عبيطة..
حد لاقي يسافر لوحده بدون مسؤولية طفلة؟ مجنونة!".نعم، أنا هذه، وهل حدث يومًا وادعيت العقل؟ هل يمكنني السفر بدون قلبي أو
عقلي أو كليهما؟ بالتأكيد لا.

قراري كان حاسمًا، سأحمل طفلتي معي في كل مكان رغم كونها طفلة شقية ومنطلقة ومُرهِقة، ستحملني هي لاحقًا معها في كل ذكرى
ومغامرة حين تصبح فتاة رائعة العقل والقلب والجمال. سأخلق لها عالمًا مفتوحًا من المغامرات، يجعل منها فتاة شابة تخشاها الدنيا "تفوت
في وش المخاطر".

يوميًا، أتأمل آخر عروض الشركات السياحية، أتخيل كل شيء في الرحلة، أشتري دفترًا ملونًا جديدًا منقوشًا عليه عبارة بالإنجليزية تقول
"عشّ كطفل واذهب حيث يوجد قلبك"، أدون به البلاد والمزارات والأنشطة التي سنفعلها يومًا ما. أبحث عن بلاد تناسبنا معًا، عن
مغامرات يمكننا أن نفعلها معًا، عن ذكريات لا تنسى.

كلما ضاق بي يومي ومهامي ومسؤولية الطفلة، أعياني الانتظار وإعادة ترتيب الأولويات، كلمّا وجدت أطنان الأطباق والغسيل والفوضى
في المنزل وضغوط العمل، أنهكني التفكير في القادم. أذهب لدفتري الملون وبلاد الأحلام، أنتظر بفارغ الصبر أول مغامرة لنا وأتمنى أن
تكون قريبة. أشحن روحي وعقلي وأتنفس بعمق، أحدد وجهتي المقبلة وأغمض عيني

المقالة السابقةريحانة قصيدة وجع
المقالة القادمةصندوق الحواديت 8.. حدوتة “ضي” والجنيات التلاتة
باسنت إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا