هديل عبد السلام
يخطر ببالي أحيانًا أن الحياة ما هي إلا سلسلة من محاولات التأقلم والنجاة التجربة التي ظننت أنها ستقصم ظهرك وتكسر جناحك، ربّما قصمته فعلاً، وربما صارَ جناحُكَ معطوبًا للأبد، لكنّك نجوت.
الحياة الجديدة التي كنت تهابُها، ربّما كان خوفك في محلّه فعلاً، ربما كانت الظروف قاسية أكثر من اللازم، قضيت ليالي من البكاء والقلق والأرق، أحد لم ينتبه لذلك، لكنّكَ تأقلمت في النهاية.
ابكِ ما شئت، واقلق ما استطعت، واهرب متى تسنّى لَكَ الهروب، لكن كن حريصًا أنَّك في النهاية ستتأقلم وتنجو، تنجو كُل يوم، بجناحٍ سليم، أو جناحٍ نازف، أو جناحٍ مكسور، لكنّك نجوت بأجنحتك، فهي التي تُنجيكَ في كُل مرة.
أحدٌ لا يعلم ما يجري بداخلك كما تعلمهُ أنت، أنتَ وحدك تعرفُ شكل المسخ في المرآة، وتعرفُ مخالبه.
لِكُلٍّ منّا وحوشَه الخاصة، تلكَ التي لا تخبر عنها أحدًا، التي تختلي بك في الأحلام ليلاً، وفِي الساعات الأولى من الصباح، حين تستيقظ صدفةً ويقاومك النوم مغلّقًا في وجهك أبوابه، لا زال الوقت مبكّرًا جدًا. تَنْظُر إلى الساعة عدة مراتٍ قبل أن تقرر أخيرًا أن تترُك سريرك.
تعرفي على: كيف تواجهين وحش البريود الشرير
تكادُ تمرُّ بجانب المرآةِ دون أن تنظُرَ في قلبِ عينيك، لكنّك تفشل كعادتك، حين تجدُ وحوشك الخاصة تتقاتلُ داخل المرآة، تتقاتلُ فَوْقَ شَيْءٍ ما، لا تستطيعُ تمييزه للوهلة الأولى، لكنّك سرعان ما تكتشف أن هذه المعركة تدورُ حول قلبك، تتخاطفه الوحوش ليربح واحدٌ منها. تشاهد أنت المعركة من خلف الزجاج، تمسحها بيدك عدّة مراتٍ كي تتضح لَكَ الرؤية، من الرابحُ هذا الصباح؟
تتلفّتُ حولَكَ من وقتٍ إلى آخر لتتأكّدَ أن أحدًا غيرك لا يرى وحوشك، صحيحٌ أنها تلتهم قلبك كل يوم، لكنّها سرّك الخاص، والذي لا يجب أن يعرف به أحد.
تنتهي المعركة أخيرًا، يقفزُ الوحش الفائزُ ليخترق صدرك حاملاً بين مخالبه قلبك المنهك المصاب. وتجمعُ أنت بقايا المعركة، تلفّها بقطعةِ قماشٍ حريريةٍ تليقُ بجلالها، وتبتلعها إلى جوفك، هناك فقط لن يراها أحد.
بالأمسِ فاز الخوف في المعركة، اليوم أنت تشعُرُ بالقُبح، القبح انتزع قلبكَ بمخالبه، اليوم أنتَ لا ترى في وجهكَ شيئًا جميلاً، لا ترى في قلبك وردةً ولا يخرج من بين أصابعك فنًّا، ولا يحوي صوتكَ حنينًا. أنت تشعر أنك قبيحٌ ولا تدري كيف تُخْفِي ذلك.
تفشلُ أحيانًا في رسم الابتسامة الكافية لتجنّب الأسئلة، فتهبطُ فوق رأسك التساؤلات كالسكاكين، كلها تبحث عن وحوشك التي أجدتَ إخفاءها، لكنّك لم تُحسِن إخفاء وجهك.
تعرفي على: كيف أنقذني التعلم من الاكتئاب
القبحُ يجعلك ساخطًا، لا تصدّقُ أحدًا، أنا مسخ، كيف لا يرونني مسخًا؟! تهرُب إلى المرآةِ كلّما استطعت، تتحسّسُ وجهك وجسدك، علّ شيئًا يتغيّر. ربّما كُل ما تحتاجهُ الآنَ هو شخصٌ صادقٌ يخبرك أنَّك جميل، وقتها قد يُفلِتُ الوحش مخالبه عن قلبك، ويهرُب إلى المرآةِ مجددًا. ينتهي الوهمُ مؤقتًا، يهربُ الوحش وتنتهي الحرب اليوم، تستكملُ يومك حرًّا جميلاً.
تأخذُ الهدنة التي ربّما تعطيكَ الفرصة لدفنِ بعض الوحوشِ في مقابر بعيدة، وتزرعُ من فوقها عُشبًا، وقد ينبُتَ من بينها شجرة تحتمي بها من وحوشِ الغد.
أنتَ وحدك تعرفُ هذه المعركة جيدًا، وتحفظُ أطرافها وخططها وصولاتها، ووحدك تحضرُ جولتها الأخيرة. وتعرف كم مرّةً أقدمتَ على قتل المسخ الذي تراهُ في المرآة، كنت تفشلُ في كُل مرّة، لكنّك تعاودُ تكرارها، لا يصدقونك حين تخبرهم أنَّك لم ترغب في قتل نفسك حقًّا، لقد أردت فقط التخلّص من المسخ القبيح الذي لا يُرِيدُ الخروجَ من مرآتك، ولَم تجد وسيلةً أخرى غير الإقدام على قتلكما معًا، لتنتهي المعركة مرّةً واحدةً نهائية. لكن هل حقًّا كانَ على القصة أن تنتهي هكذا؟!
في طفولتي كنت أعتقدُ أنّ كُل الوحوش كانت يومًا ما جراءً أو هررةً صغيرةً ولطيفة، لكنّها عانت من القسوة طويلاً، فصارت تختبئ في الظُّلمة وتأكلُ منها قطعًا إلى أن صارت وحوشًا مخيفة، تحملُ في صدرها الكثير من الظُّلمة، وكانَ يمكن ألّا تصيرَ كذلك. ربّما وحوشُ المرآةِ أيضًا كانت كائناتٍ صغيرة محببة، لكن أحدًا لم يحتضنها كما يجب، فكبُرت وصارت جاهزةً لالتهام الجميع.
هل يمكن أن نحتضن الوحوش بعدما كَبُرَت إذًا؟ ربّما. هذا الصباح، لا ترغبُ في الاستيقاظ، تقاومُ الصباح بِكُل ما استطعت، تشعُر وأنّك استيقظت داخل الكابوس بدلاً من أن تستيقظ منه، وكأنّ جسدك مجروحٌ من الداخل، فلا يمكنك الوصولُ إلى الجروح لمداواتها. أنتَ لا ترى نهايةً واضحة لكل هذا الألم، وهذا يُصعِّبُ الأمور. أنت لا تقوى على المواجهة لأنّك لا تستطيعُ رؤية النهاية، ماذا تحارب ومن تحارب ولماذا تحارب، وإلى متى ستستمر المعركة؟!
تعرفي على: 7 نصائح للتعامل مع الوحش اللي في حياتك؟
اليوم.. أنتَ تشعُرُ بالفراغ، وكأنّ عالمًا بأكمله في صدرك، لكنّه فارغ، تكادُ تسمع دقّات قلبك وصداها بصوتٍ يكادُ يُفقدك السّمع، تشعُرُ وكأنّ العالم يهتزُّ من الصوت، تضعُ يدك على صدرك وأنت تتساءل “هل يسمعه غيري؟”. اليوم أنتَ تحتاجُ لملء هذا الفراغ بأي شكل، اليوم أنت تحتاجُ أن تجد ولو شخصًا واحدًا يقول لك ما تريدُ سماعه، أنه يحبك كما أنت، بكل وحوشِك، وأنه يدعمك ولو لم تكن تفعلُ شيئًا سوى البكاء والتقوقع في السرير أيامًا متتالية، اليوم أنت تحتاجُ من يقفُ وراءك مباشرةً وأنت تحاولُ احتضان المسخ، فقط لتنظُر إليه حين تلتفت للتراجع، فيتلقّفُكَ بابتسامةٍ ويقولُ لَكَ “إنك بخير”، و”معلش”، “ويمكن بكرة تقدر”.
اليوم أنت تحاولُ احتضان المسخ، هذا كل ما تفعله الآن، وهذا كل ما هو مطلوبٌ منك فعله، أن تحتضنَ المسخ كاملاً وتصبرَ على احتضانه ومقاومته كل يوم، وكل ساعة، حتى يهدأ يومًا ما وينكمش بين يديك شيئًا فشيئًا، إلى أن يعودَ جروًا صغيرًا محببًا كما كان قَبْلَ أن يأكُلَ من الظُّلمة.