ندى
كنت أحكي له قصة عشوائية تافهة، أبعد ما تكون عما يؤلمني وأريد أن أحكيه، تمنيت لو أننا كنا صديقين بما يكفي، لكي أصرخ في وجهه وأبكي وأُخرِج كل ما هو عالق في بلعومي يُصعِّب كل نفس أستنشقه، ولأنني أعرف أنه لن يحتويني على أي حال، اكتفيت بأن أشفي رغبة الحكي نفسها فقط، حتى ولو بقصة أخرى.
فاجأني أبي برد يليق بقصتي الحبيسة، كما لو أنه سمعها تُصارِع ما أرويه، قال لي: بطلي تخططي لكل حاجة وتتعبي وتعافري، عيشي يومك بيومه وسيبي الدنيا تاخدك مطرح ما كده كده هتروحي.
يبدو أن هذا الرجل -على كل اختلافي مع منطقه في الحياة- محق! النتائج النهائية مؤخرًا كانت خيبة تلو الأخرى مهما تكلفت من عناءٍ في محاولة تغيير هذا.
***
لست من محبي الألعاب الإلكترونية، نادرًا ما تجذبني لعبة وتكمل الشهر على هاتفي أو حاسوبي، إلا أن هناك تطبيقًا واحدًا خرج عن هذه القاعدة، تطبيق Lumasity لتنمية المهارات العقلية عبر الألعاب، يحوي ألعابًا لتنمية الذاكرة وسرعة الاستجابة وتعدد المهام… إلخ، لفتتني من بينها مهارة لم أفهمها إلا مؤخرًا: المرونة، تذكروا هذا الاسم.. سنحتاجه.
وعلى ذكر المرونة، قدمت العديد من النظريات العلمية تفسيرًا لعدم انقراض الإنسان، أغلبها يُعِيد الفضل في هذا إلى هدية الله الأعظم للبشرية، وهي المخ، إلا أن إحدى النظريات أتت أكثر تحديدًا، حيث أرجعت الفضل لقدرة البشر على التكيُّف مع المتغيرات المناخية والجغرافية والكوارث البيئية والأوبئة، الأشياء التي فتكت بكل الكائنات الحية الأخرى، والتكيُّف هو إحدى مهارات المخ، والتي تعرف أيضًا باسم “المرونة”.
***
شاهدت مؤخرًا لقاءً رائعًا مع أحمد الفيشاوي، ذكر فيه أنه على وشك تصوير فيلم مشترك مع أحمد مكي، يقوم الأخير بإخراجه أيضًا، وهو أمر لم يحدث منذ فيلمهما الفاشل معًا “الحاسة السابعة”.
لم أفهم يومًا كيف فشل هذا الفيلم، ولكنك إن تتبعت سلاسل فشل مكي، ستجده نموذجًا مثيرًا جدًا، ذلك المخرج الواعد الذي حصد الجوائز بمشروع تخرجه وكانت كل “خططه” تتمحور حول الإخراج، تقسم ظهره هزيمة تغير مجرى مهنته نحو التمثيل. خطوة غير محسوبة تؤتي بثمار لم تكن متوقعة، ثم تعيده بعد أكثر من 10 سنوات، لينفذ حلمه الأصلي، بعد أن صار اسمه قادرًا على حمل شباك تذاكر فيلم.
***
بالعودة إلى ما قاله أبي، أظن أن مشكلتي ومشكلة العديدين من جيلي أننا انهمكنا تمامًا في وضع الخطّة، وَهْم القدرة على السيطرة على المستقبل وإخضاعه لإشارة الانطلاق الخاصة بنا، أغلب نوبات اكتئابي ومن أعرفهم، جاءت عندما قلنا “يلا” فوجدنا الخطّة لا تستجيب.
وبالعودة إلى نظرية عدم انقراض الإنسان، أظن أن فرحتنا بالحياة وشباب أرواحنا قد انقرضت عندما لم تسر خططنا أبدًا بالترتيب الذي وضعناه له، فقدنا موهبة التكيّف، المرونة، وهو لفظ يجب أن تفرق بينه وبين الاستسلام، أما المرونة فتقاس بقدرتك على تغيير خطتك، تغيير أسلوبك، تغيير قناعاتك، قدرتك على التعلم من أخطائك.
وجدت الكثير من الدراسات أن المرونة عاملاً مشتركًا بين كل الناجحين وخارقي الذكاء، القدرة على بناء الخطة باء وتاء حتى ياء، إلى أن تنجح واحدة بعد وقت، طال أو قصر.
***
وبالعودة إلى قصة فيلم مكي والفيشاوي الجديد.. مكي ليس الوحيد، لديك أكرم حسني، كان ضابطًا لعشرة أعوام، ثم سحبته الحياة للإذاعة ثم التقديم ثم بطولة الأفلام والمسلسلات، وعشرات الحكايات الأخرى التي تسمعها كل يوم، كيف أنه لا أحد كان يملك خطة واضحة سارت بنفس الترتيب المحدد لها حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.
لم تنجح أي خطة، بل فاز من تمتع بالمرونة الكافية، وانقرض من لم يستطع تحمل الخيبة وراء الأخرى، وعندما جاءه الفرج من حيث لا يحتسب لم يره من كثرة تعلُّق نظره بما يحتسب فقط.