بينما أهم للانصياع -رغم عدم مناسبة الظروف والحالة- لسطوة هذي الرغبة اللحوحة في الكتابة عما يعتمل بروحي وتدفعه بكل ما أوتيتْ من قوة تروس عقلي، للانصهار خارجه.
تستدعي أذناي بدأب وتركيز شديدين صرخة “إليزابيث كوستيلو” بطلة “جون ماكسويل كويتزي” في رائعته التي تحمل اسمها، وقت كانت ترهقها فكرة توحد الناس مع ما يحدث في العالم من حولهم، حد شعورهم بالرضا عنه، رغم كل ما يحمله من نقص: “لماذا لا أستطيع أنا أيضًا أن أرضى؟”، تلك الصرخة التي تمثل صرخة الإنسان المخلص لأفكاره وتطلعاته، الذي يشعر بالغربة والوحدة في مجتمع لا يشبهه.
لا أدري لماذا “كوستيلو” على وجه التحديد! ولم في هذا الوقت بالذات، الذي عثرت على نفسي فيه كمصاب حرب، توشك الروح على الرحيل عنه، لكن ربما لأني الأخرى مصابة بنفس المتلازمة التي أصيبت بها قبل زمن، والتي دفعتني منذ قليل للصراخ في وجه طفلي الذي لم يكمل بعد عامه الأول، بعد أن ألحّت عليّ الندّاهة للذهاب معها عبر قلم وصفحات بيضاء موسومة بالسطور.
مثل “إليزابيث” حينما اهتاجت كعاصفة تصرخ في صغيريها: “أنتما تقتلاني! أنتما تمزقان اللحم عن جسدي”، لأنهما كصغيرين يريدان اللعب والاستحواذ على انتباهها كأم، بينما تريد هي بملء شغفها مساحة للكتابة.. فقط مساحة للكتابة، أو بوصفي المتواضع تريد المُضي وراء الندَّاهة في الوقت والظروف والحالة التي تريدُ، حتى وإن لم تكن هي بملء وعيها تريد.
توحّدj الأم الشابة والكاتبة الحديثة “إليزابيث كوستيلو” مع شغفها بالكتابة فخصصت من يومها فترة الصباح، حيث كانت تعزل نفسها في غرفة، تُحرّم اقتحامها تحت أي ظرف، ليظل بابها موصدًا في وجه صغيريها، حتى تُفرِغ ما في وفاضها وتهم هي بالخروج، ولعل هذا ما يبرر -بحسب الرواية- رفض ابنها “جان” القراءة لها حتى بلوغ الـ33 من عمره، كنوع من التمرد عليها وعلى طقوسها التي تسببت في جعله طفلاً سيئ الحظ.
الحقيقة أنني أحلم بهذا التوحد وأتوق إليه بين الفينة والأخرى، وإن تحقق على حساب رفض “زين” القراءة لي حتى يتجاوز الـ30 من عمره. أُحدِّث نفسي: على الأقل حينما، يأتي وقت ويتصالح فيه مع تقصيري في حقه ويقرر اقتفاء أثري يومًا ما سيجد أرضًا موسومة بآثار أقدامي، بدلاً من أن يكبر في كنف اختياراتي اللائقة من وجهة نظره. وبعد زمن لا يتعرف عليّ إلا من خلال بضع صور بالية، لن تُطعم ذاكرته ولن تغنيها من جوع، حينها ستلوح أجنحتي له من علٍ وتُمطِرها من نورها.
وبمناسبة أجنحتي: لديَّ ذلك الاعتقاد المتماهي مع طبيعتي بأن بعض البشر حينما يُولدون تنبت أعلى أطراف أكتافهم جذور صغيرة لأجنحة، تلك الجذور هي لبذور أحلامهم وتطلعاتهم في الحياة، وكلما تولّدت في أرواحهم رغبة في التحليق بعيدًا واستجابوا لها بالسعي، تكوّن جزء من تلك الأجنحة على الجانبين، حتى تستحيل الذراعين على الجانبين أجنحة نورانية، يحلقون بها متى أرادت وأرادوا.
ولعل أكثر ما يؤلمني في هذه اللحظة أنني أشعر بثِقَل غير محتمل في أجنحتي، كأنني حلَّقت ذات يوم أعلى بحيرة واسعة وأنهكني طول الطيران فسقطت فيها، واكتست جناحاتي بذرات الرمال المتطايرة على أحد جوانبها فأصبحا ثقيلين كما لم يكونا من قبل.
الشعور الذي كان يستأثر بي في لحظات ويحملني وأجنحتي حيث أريد، صار عصي حتى على الحضور، وإذا جاء مُعلنًا العصيان على صوت صراخ “زين”، تعثَّر في سخونة جسده الضعيف إثر إحدى نوبات السخونية اللعينة، وإذا لاذ بالفرار من هذا وتلك، تعثرت خطاه في أحد مهامي اليومية، التي، مذ جاء “زين” إلى الدنيا وهي لا ترفع راية الاستسلام أبدًا إلا بتسليمي إلى السرير صريعة، تحارب -فقط- لأجل قبس ضئيل من الراحة لاستئناف الرحلة غدًا.
أعلم أنني لا أمثل إلا نفسي في بيئة تعج بالمصارعات لأجل البقاء، رغم كل ما يواجهنه ويثقل أكتافهن أو حتى بأخريات -أعتبرهن محظوظات- لم تعرف فطرتهن ملمس الريش في الأجنحة، لكن ما يملؤني حقًا بالحزن والأسى، أن تلك الأجنحة الرملية على جانبي كتفي، تحجرت بمرور الوقت واستحالت شوكة توخز روحي في كل يوم يمر عليّ، دون أن أصنع شيئًا مما يعتمل في رأسي وينفخ فيه من روحه قلبي، رغبة في التحقق.. في التحليق.. ويطعنني ذلك التساؤل الأعوّر: “بتعملي إيه في حياتك اليومين دول؟” كخنجر مسموم، لا يبرأ موضعه مهما تعاقبت عليه الأيام والشهور.
أنا أم حديثة، تتجنب كثيرًا الشكوى من أعباء الأمومة هروبًا من توبيخ محتمل يُشهَر في وجهها كسيف لا يعرف مُشهِره شيئًا ولو قليلاً عما يدور في يومها من أحداث، وما يغلي في عقلها من أفكار عن انقضاء العمر بلا تحقق، وضياع معالم الطريق قبل الوصول. تؤجل مواجهة كبرى بين فطرتها كأنثى فتنتها الأمومة، وكيانها كامرأة -لحظها العاثر حينما ولدت نبت لها جناحان- تعلم يقينًا أن مواجهة أحدهما للآخر سيخلف دمارًا شاملاً لن يُبقي ولن يذر.
ها قد انتصف الليل، وبعد أكثر من ثلاث ساعات جاهدت فيها لإنهاء هذه التدوينة قبل أن يفيق صغيري، الذي غطّ في نوم عميق بعد بكاء طويل، جاء صوت دينا الوديدي من بعيد مرددًا: “يا ليل.. يا اللي ما ليك آخر.. مليت يا ليل كاساتي ع الآخر.. وشربت مسكرتش وعطشت من تاني.. لفيت ومتوهتش ورجعت لمكاني”، ليحقنني بيقين لا يشوبه شك، أن ليلي الثقيل سينفض حبات الرمال عن أجنحته يومًا ما، لتسوقه الحياة نحو ليل جديد، يشرق من بعده، وهكذا حتى تفيض روح الأجنحة وروحي إلى بارئها، بعد رحلة طالت أو قصرت من التحليق بعيدًا.