أسطورة الأحمد الخالد توفيق

767

فجر الثاني من أبريل، وبعد أن قضيت يومًا متعبًا، نظرة مني على كتبي التي تُمثِّل مصدر السعادة الوحيد، كانت كافية لألمح كنزي الصغير، رواية “مثل إيكاروس”، حيث يقبع في ركن الصفحة الأولى توقيع كاتبي المفضل والأقرب إلى قلبي “أحمد خالد توفيق”، بينما يقبع في الصفحة الثانية إهداء صديقتي الأقرب “يمنى” الذي يُشعرك أن الكلمات تتراقص فرحًا.

 

الكنز الصغير كان الختام الجميل الذي ساعدني على النوم، وأنا أحلم بمرور الأشهر التي تفصلني عن الانتقال إلى مصر، حيث يُمكن أن أرافق “يمنى” للقاء الغالي د. أحمد خالد توفيق، عندها يُمكنني أن أحصل على توقيعه مباشرة وأنا أنظر إليه.. أحلام وردية رقيقة ماتت في نهاية اليوم بعد أن حدث الكابوس الذي لم أحسب له حسابًا قط.

 

في الوقت الذي بدأت فيه الغالبية العظمى من القُرَّاء مع “د. نبيل فاروق”، كنت أنا قد بدأت مع الأستاذ “خالد الصفتي” وسلسلة فلاش، كانت رفيقة طفولتي وظلت إلى أن بلغت الخامسة عشرة من عمري، فمع وصولي الصف الأول الثانوي، تعرفت على صديقة غيَّرت مجرى قراءاتي، ويمكن القول مجرى حياتي أيضًا.

 

صديقتي “رشا” أول صديقة قارئة في حياتي، منها عرفت جميع السلاسل التي تُصدِرها المؤسسة العربية الحديثة، وعلى سبيل التجربة أعطتني عددين من سلسلة “رجل المستحيل”، وعددًا من سلسلة “ما وراء الطبيعة”. النتيجة الغريبة أني لم أحب “رجل المستحيل” على الإطلاق، ولم أستطع قراءة العدد الخاص بـ”ما وراء الطبيعة”، والذي أذكر أنه كان “أسطورة الفصيلة السادسة”. نتيجة لم ترضِ صديقتي، ولم ترضِني أنا كذلك، فحاولت مع عددٍ آخر، كان “أسطورة تختلف”، العدد الذي ورطني في عوالم “د. رفعت إسماعيل” الطبيب الذي تجعله البذلة الكحلية فاتنًا، عصا المكنسة الصلعاء، الثعبان الذي يتظاهر بأنه سحلية، الملول الساخر، أصبح فتى أحلامي بهزاله وربوه وضيق شرايينه التاجية.

 

لم أكن مراهقة عادية، كنت مختلفة شكلًا ومضمونًا، لم تكن اهتماماتي تشبه اهتمامات أقراني، وزني الزائد جعلني عُرضة للتنمر الدائم، الأمر الذي ملأني بطاقات هائلة من الغضب تجاه كل الأشياء، وكان من الرائع أن أجد من يتفهم اختلافي وغضبي، حيرتي وقلقي، ويجيب تساؤلاتي الكثيرة. لأجل ذلك أحب د. رفعت اسماعيل، عبير عبد الرحمن وعلاء عبد العظيم، لأجل هؤلاء أحب د. أحمد خالد توفيق، الرجل الذي كان رفيقي وصديقي وأبي الروحي الذي ساعدني على تقبل اختلافي بل والسخرية منه،ولم يمارس عليّ سطوة مجتمعية أو أخلاقية.

في الإجازة الصيفية للعام الذي عرفت فيه عوالم د. أحمد، سافرت إلى مصر، وهناك كنت سعيدة كخنزيرٍ في بركة وحل، فقد استطعت الحصول على كل ما كان ينقصني من أعداد. المكتبات في غزة في بداية الألفية كانت شديدة الندرة، والعدد يصل بعد قرابة العام من صدوره في مصر، وبأسعار مضاعفة تضرب ميزانية طالبة مدرسة في مقتل، كل هذا جعل الطريق إلى بائع الجرائد، كأنه الطريق إلى الجنة. كانت سعادتي بالأعداد وشغفي بها واضحًا لكل المحيطين بي، وقتها حدث موقف ما زال حاضرًا في ذهني حتى رغم مرور 14 عامًا، لأنه يمثل سطوة الكبار التي أكره. إحدى خالاتي أشعرتني بالذنب الكبير كوني أهتم بقراءة ما لا ينفعولا يفيد، وألقت إليّ بكتابين عن سير الصحابة. الذنب الشديد الذي أشعرتني به منعني عن قراءة ما أحب، والإكراه منعني عن قراءة ما دُفع إليّ من كتب، ولم أخرج من هذا الموقف شديد السوء إلا عندما أعطتني خالة أخرى مبلغ مالي صغير لشراء الكتب التي أحب، لم تكن فرحتي بالمال، وإنما شعوري أن هناك من يفهم ويحترم اهتمامي، هناك من لا يثقل كاهلي بوصايا الخطأ والصواب.

عوالم د. أحمد التي أنقذت المراهقة من أن تأكلها نيران الغضب، أنقذت الشابة التي تبلغ من العمر 26 عامًا من أن تأكلها نيران الخوف والقلق في حرب غزة 2014. عالمي كان ممتلئ بالقتل والدماء، الصواريخ تنهمر على مدينتي، فلا تمر ساعة دون غارة غاشمة تحصد الأرواح، كنت أغادر عالمي لأصاحب عبير عبد الرحمن في فانتازيا حيث الحق والخير والجمال الذي أكلتهم طائرات الموت في غزة.

هكذا كان دائمًا د. أحمد المنقذ لعدة أجيال، اليد الممتدة لتعبر بنا من مرحلةٍ لأخرى، اليد الحانية التي تربت علينا وقت اشتداد الُكُرب، المرشد الذي يفتح لنا مسالك أخرى لنتعلم وننضج ونصبح النسخة الأفضل منّا. لم أكن أتوقع أن يكون رحيلك بهذه السرعة، لم أكن أتوقع أن تغادر العالم دون أن أراك، أنا التي لم أتخيل عالمًا يخلو من د. رفعت اسماعيل، كيف لي أن أتخيل عالمًا يخلو منك الآن. كيف لي أن أستبدل أحلامي الوردية بلقائك، بزيارة قبرك، هذا هو الكابوس الذي لم أتخيله على الإطلاق يا د. أحمد، كنت أعتقد أنك باقٍ حتى تحترق النجوم، باقٍ للأبد، فلماذا كان رحيلك سريعًا هكذا؟!.

عاجزة أنا عن رثائك يا حبيب القلب والروح، لذا سأستعير كلماتك التي كتبتها في النبوءة: “وداعًا أيّها الغريب، كانت إقامتك قصيرة، لكنّها كانت رائعة، عسى أن تجد جنّتك التي فتّشت عنها كثيرًا، كانت زيارتك رقصةً من رقصاتِ الظّل، قطرةً من قطراتِ النّدى قَبْلَ شروقِ الشمس، لحنًا سمعناهُ لثوان من الدّغلِ، ثمّ هززنا رؤوسَنا وقُلنا أنّنا توهّمناه، وداعًا أيها الغريب، لكن كل شَيْءٍ ينتهي!”.

وداعًا أيها الحبيب الغريب، لكنك لن تنتهي، رحلت عنّا جسدًا لكنك ستظل الذكرى الأكثر حضورًا في ذاكرتي، الفكرة الأكثر رسوخًا في عقلي، والحب الذي يفيض به قلبي. تأكد أنك ستظل دائمًا وأبدًا الأحمد الخالد في قلوب كل محبيك.

 

المقالة السابقةفي شم النسيم.. أنتِ مصنع للذكريات
المقالة القادمة10 نصايح للأمهات للريلاكس قبل الامتحانات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا