أحب الرقص..
أسمع موسيقى الفلامنكو فأراني أرتدي ثوبًا واسعًا.. أدور، فيدور محدثًا حلقات ملونة حولي. أرفع قدمي وأدق بها الأرض، أرفع قدمي وأحرك يديّ وأدور حول نفسي صانعة عالمي الجديد.
أحب الرقص..
أسمع موسيقى التانجو فأراني بين ذراعيّ حبيبي.. يضمني.. يضمني أكثر، فنقترب من روح الأرض أكثر.. نرسم بأقدامنا الخطوة تلو الخطوة ونعيد تشكيل وجه العالم.
أحب الرقص..
أسمع الموسيقى الكلاسيكية فأراني فراشة من نور، خفيفة كزهرة، أدور وأدور.. أرفع ذراعيّ وأرفع قدميّ وتتحدد علاقتي بالكرة الأرضية من خلال طرف إصبعي المغروس فيها.
أحب الرقص..
أسمع موسيقى السالسا فأزين جبهتي ورقبتي ورسغي بعقود وقلادات وأساور من زهور، وأرقص حتى أسكن في حضن الشمس.
أحب الرقص..
أسمع موسيقى الكان كان فتأخذني إلى أزمنة بعيدة من تاريخ فرنسا التي أحبها، حتى أعتقد أني -أخيرًا- سكنت المولان روج.
أحب الرقص..
أسمع موسيقى الزار فأترك لجسدي حرية الحركة غير المنظومة. يصرخ جسدي ليرضي أسياده من كوابيس وكبت واكتئاب.. تتدافع الهلاوس السوداء من رأسي حتى يهمد جسدي تمامًا وأستطيع -أخيرًا- أن أنام.
أحب الرقص.. لكني لا أجيد الرقص.
***
عندما كنت صغيرة كنت أفكر دائمًا في الموسيقى وكيف أصنع منها عالمًا جديدًا رحبًا.. يتحرك فيه جسدي بلا تفكير ولا موازنات.
وقتها لم تكن الموسيقى تمر على عقلي. كانت تأخذ طريقها من أذني لقلبي لأطرافي، فأترك جسدي حرًا يتفاعل كيفما يشاء.
لم أكن أحب الحركات المنتظمة ولم أحفظ رقصة بعينها.. فقط حركات انسيابية حرة، وكأنما جسدي قشة فوق موج الأنغام.
صغيرة كنت.. أجلس أمام شاشة التليفزيون أراقب الراقصات وأتعجب من التوافق المدهش والاستجابة المتناغمة بين الأمر الذي تعطيه الأعصاب للجسد فيتحرك.
كنت أتساءل كيف للجسد أن يطيع العقل لهذه الدرجة! وقتها كنت أرقص كثيرًا. أرقص في كل الأوقات. أرقص عندما أفرح وعندما أحزن. أرقص عندما أشعر بالتوتر أو الضغط. أختار الموسيقى بشكل عشوائي، فلا يفرق معي تشايكوفيسكي أو عدوية.. وأرقص.
تقول أمي.. بطلي تنطيط هتهدي السقف، فأضحك وأستمر حتى الإنهاك، وعندما تنتهي الموسيقى أكتشف أني مع العرق والحركة فقدت الغضب والتوتر، هدأتْ أعصابي تمامًا، فأجلس لألتقط الأنفاس.
كيف كان ذلك يحدث؟!
لم أفكر قط. فقط كنت أرقص حتى صارت عادة.
حفلات المدرسة الثانوية والرقص على أنغام موسيقى ألبوم What’s Now 98 نهارًا وفي المساء كانت Las Ketchup هي المفضلة.
الشتاء البارد والمطر كانا موسم رقصي المفضل. تبدأ الأمطار فأصعد لسطح المنزل وأنهمك في الرقص.
أما شارع الخليفة المأمون صباحا فقد شهد رقصي على موسيقى أغنية “جنني طول البعاد” طوال السنة الأولى من دراستي الجامعية.
متى انتهى كل هذا؟!
متى سكن القلب وثقل الجسد؟
كيف تحول الرقص من حركة تحمل خفة الروح لفكرة لا ترد على البال أصلاً، وإن أتت لا يطاوعها الجسد؟ متى فقدت الرابط بين رغبة الروح وحركة الجسد؟
بشكل مؤكد ما زلت أذكر المرة التي حاولت فيها الرقص وفشلت. كانت هذه المرة بعد تخرجي من الجامعة. بعد أن تحملت مسؤوليات العمل والدوام المنتظم وإمضاء التاسعة صباحًا ومسؤولية الحفاظ على هذا الجسد في المواصلات العامة والشوارع ومكاتب العملاء.
كبرت الروح في سعيها اليومي، فثقل الجسد وترنح خلف شاشات الكومبيوتر وشيتات الحسابات وأرقام المدينين والدائنين، فلم تعد الموسيقى قادرة على حمله.
وكبرت أنا أيضًا وصرت أنفث عن غضبي وتوتري بالصوت العالي والسباب واللعنات التي تخرج من بين شفتي كطلقات الرصاص.
كبرت جدًا حتى أنني صرت أحمل شمسية في مواسم المطر. وأنزعج تمامًا من أي موسيقى تدعو للرقص.
لكن في هدوئي عندما أرى طفلة صغيرة ترقص أبتسم بخفة، وأتذكر كل رقصاتي المرحة وجسدي غير المبالي. حتى أنني قد أستمع لموسيقى سبق وأن رقصت على أنغامها، فتومض نجمة في قلبي وأعرف أن روحي في مكان آخر بعيدة عن مهام جسدي اليومية، ما زالت ترقص بخفتها التي أعرفها.