كم مرة مشيتِ على أطراف أصابعِك في الضوء الخفيف، ثم انحنيتِ برهافة مثبتة إحدى قدميك في الأرض رافعة الأخرى ورائك في الهواء كي تلتقطي شيئًا من مكانه؟! بمنتهى الرقة كنتِ تتحركين كراقصات الباليه حتى لا توقظين طفلك النائم في فراشه.
كم مرة قمتِ بتثبيت قدميك الاثنتين في الأرض رافعة يديك الاثنتين عاليًا، ثم حركتِهما حركات دائرية مدروسة كي تزيلي الغبار من على رف المكتبة، أو كي تزيلي كل الوجوه الحزينة من على مرآة غرفة نومك؟! كنت وقتها تشبهين راقصات الفن المعاصر كثيرًا.
كم مرة انحنيت على دلو الماء المعطر، تغمرين “الشرشوبة” في الماء ثم تعصرينها بيديك عصرة خفيفة ويستقيم ظهرك، ثم ينحني نصف انحناءة محاذرة لمواقع قدميك على الأرض المبتلة وأنتِ تقومين بمسحها بتركيز؟ تلك إحدى رقصات الفن التعبيري التي ترقصينها باحتراف.
كم مرة استدرتِ استدارة كاملة لم تكد قدميك تمس الأرض أثنائها حتى تلحقين بباب المترو قبل أن ينغلق ويتركك على الرصيف وحيدة؟! كانت لفة البرويتة تلك مدهشة.
كم مرة كنتِ تقفين في المطبخ ثم وصلك صوت أغنيتك المفضلة قادم من التليفزيون أو من شباك جارتك التي لا تتبادلين معها حديثًا مطولاً، فحركتِ كتفيك ووسطك حركة بطيئة وناعمة وأنت تبتسمين خلسة قبل أن تستكملي صنع التسبيكة التي تجيدينها؟ عمومًا البلدي يوكل.
هناك في الرقص ما يسمى بالكايوجرافي، وهي الحركات التي يرسمها مصمم الرقصة ليؤديها الراقصون، أنا وأنت وكلنا تقريبًا نرقص تبعًا لكايوجرافي لم يرسمها أحد، أنتِ مصممة الرقصة ومؤديتها، وكالرقص على المسرح تمامًا فأي حركة غير محسوبة تفسد الأمر، وتضطرك لتعيدي حركاتك مرة أخرى بطريقة صحيحة، فاللحظة التي تقفين فيها على الكرسي الخشبي لتثبيت الستارة هي جزء من رقصتك اليوم وأي اختلال لتوازنك يفسد الرقصة.
نحن نرقص كل يوم، الفرق الوحيد بين الأيام أن هناك أوقاتًا تدركين فيها أنك ترقصين، تتحركين بخفة حتى لو كان وزنك ثقيلاً، تتناسين هوس الريجيم وإنقاص الوزن ونظرتك لصورتك في المرآة، ويصبح مودك مناسبًا تمامًا للرقص، فتتنقلين في المنزل بخفة، تنزلين السلالم قفزًا، وتلحقين بالميكروباص بحركات مدروسة تجعلك تبتسمين من داخلك، حتى لتكادي تنحنين لزملائك في الميكروباص منتظرة تصفيقهم الحار، وهناك أيام أخرى تقومين بنفس الحركات ولكن تفعلينها بثقل، تتحركين ببطء وبأكتاف محنية، يظل عقلك يدور في الدوائر المفرغة لأسئلة حياتك التي لا تمتلكين لها جوابًا.
أنتِ هو أنتِ في الحالتين، والرقصة نفس الرقصة، فقط هناك أفكار يمكنها أن تجعلك خفيفة وأخرى تجعلك تزنين أطنانًا، بالأحرى الأفكار هي ما تثقل رأسك وجسدك وتمنعك من أداء رقصة حياتك بحرية، وبالطبع لا يمكنك أن تفرغي رأسك من الأفكار دائمًا، فقط هناك أوقات يمل رأسك من كل تلك الأفكار الكثيرة ويطردها ويطالبك بالخفة، هنا في تلك اللحظة تحديدًا يجب أن تستجيبي.
الأفكار لن تطير، المسؤوليات لن يقوم بها شخص آخر غيرك، كل واجباتك ستظل منتظرة، وحتى المشكلات والخناقات لن تخوض نفسها بنفسها دونك، فقط اليوم تخففي منها وحققي لرأسك أمنية ليوم واحد، نحِّي كل شيء جانبًا وارقصي مع حياتك رقصة قصيرة بلا جمهور، اجعلي كل حركاتك متسقة، هنئي نفسك بكل خطوة صحيحة تخطينها ضمن الكايوجرافي لرقصة اليوم، احتفلي بانحناءة ظهرك حتى تطولين الحبل الأخير على منشر الغسيل، غدًا نكبر ولن نظل قادرين للأبد على الانحناء بلا ألم.
ليوم واحد فقط اعتبري نفسك نجمة على مسرح حياتك، جسدك ما زال طيعًا حتى وإن ثقل وزنه، قدماك ما زالتا تحملانك دون الكثير من المشكلات، يداك وأصابعك بإمكانها رسم اسكتشات مذهلة، لا تلقي بالاً لكل هواجس شكل الجسد والملابس التي لم تعد تناسبك، جمهورك أصلاً لا يعبأ بذلك، جمهورك يحسدك أنك تستطيعين التحرك، أنت لست الكرسي الذي تدورين حوله بخفة، أنت لست الشرفة ولا الستائر ولا مقبض الباب، أنت إنسانة بإمكانها أن تتحرك بحرية، بإمكانها أن ترقص فتبهر الكرسي والشرفة والمقبض، بإمكانك حتى أن تبهري العابسة التي تطل عليك من الجهة الأخرى للمرآة ساخرة من رقصتك الساذجة.
ليوم واحد فقط، ارقصي مع حياتك رقصة متقنة وأخبريني عن النتيجة.