مقاومة أعداء الرقص

2485

ينهض جسدي من مرقده ويتشبث بالانطلاق، يصر على التواصل مع الأرض عبر أقدامي. أقف بأصابع حافية تتحسس برودتها، تتعرف عليها بطريقة مختلفة عن المشي والركض والقفز، ويتمطأ عودي إلى أعلى وأمد ذراعيّ عن آخرهما لألمس سماءً بعيدة لا أطالها.

 

أسحب دفقات الهواء داخلي وأخرجها في إيقاع منتظم، وأستشعر نبض كل عضلة نفرت من مكانها من أجل رقصة بسيطة لا تعبر عن شيء محدد، فقط أحاول بها إنصاف جسدي على أصوات الماضي التي تتحكم في أطرافي وفي خصري، وتبث لي من حين لآخر جملاً بالية في عيني الآن.

 

يجذبني الرقص إلى مناطق رحبة لم أزُرها قط، ليس لثِقل الجسد وقلة المرونة وتخابث الدهون المتراكمة علاقة، ولكن منذ الطفولة ضُرب لي حول الرقص سورًا عاليًا لا يمكنني عبوره.

كلما طاوع جسدي أصوات الموسيقى علت أصوات النهر والزجر والمنع عنها، فالرقص هو العيب الكبير الذي قد يفتح سككًا غير أخلافية للفتيات الصغيرات. الرقص هو الإثم الذي يفتح أعينهن المغمضة كالقطط الوليدة.

الرقص يأخذ من حيائهن الفطري ويجرجرهن إلى التبجح والنضوج قبل الأوان. أقرنوا الرقص لي بالأخلاق والأدب ولم يقترن بالحرية والانطلاق والتوهج.

أفَلتُ حتى الكِبر كنجمة لم تتعلم كيف تضيء.

***

يحكي الفيلسوف فريديك نيتشه، في كتابه “هكذا تكلم زرداشت”، أن زرداشت مر يومًا بغابة مع صاحبه يفتشان عن ينبوع ماء وسط الأشجار، وكان هناك فتيات جميلات رائعات يرقصن بعيدًا، وإذا بهن يتوقفن عن الرقص ما إن لمحن الغريبين المراقبين لهن، فاقترب زرداشت منهن قائلاً:

“داومن على رقصكنّ، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعجٍ للفرحين، وما هو بعدو الصبايا. فهل يسعني أن أكون عدوًا، لما فيكنّ من بهاءٍ ورشاقة وخفة روح! وهل لي أن أكون عدوًا للرقص الذي ترسمه هذه الأقدام الضوامر الرشيقات!”.

 

يؤمن نيتشه في فلسفته عن الرقص أن جسد الإنسان هو أصل تفاعله مع الوجود، وأن الجسد الراقص ما هو إلا جسد تتجلى فيه المعاني المعبرة عن القوة والصحة والسلامة.

يرى أن الأقدام الرشيقة التي ترقص ما هي إلا دلالة على عنفوان الإنسان وتحديه لرتابة إيقاع الوجود، فالرقص قادر على تنويع إيقاع الحياة، ونتجاوز به الألم والمرارة والتبلد والملل.

 

الرقص إرادة “ولا إرادة إلا حيث تتجلى الحياة” هكذا يؤكد على أهمية الرقص في تبديد العتمة التي يخلفها الفكر القديم بتقييد الجسد.. الرقص ينير الحكمة التي تختبئ خلف الحياة.

 

***

أفكر مطولاً بجملة زرداشت: “هل أكون عدوًا لما فيكن من بهاء ورشاقة وخفة روح؟ هل أكون عدوًا للرقص؟!”.

ويمر ببالي كل أعدائي الذين تحلقوا حولي عندما حاول جسدي فك الحصار المفروض عليه.. أملوا عليه الجلوس وهو يرى الجموع تهز الأرض هزًا من امتلاء أجسادهم بالحياة.

 

“دول مش مؤدبين”.

“إياكي أشوفك بترقصي حتى لو لوحدك”.

“البنت اللي بترقص بنت مش متربية”.

“هكسر المراية اللي بترقصي قدامها دي”.

 

يسكن الماضي رأسي وأنا أتابع برنامج so you think you can dance، تذهلني قدرات الجسد على التحرر. الراقصون تميزهم المرونة والاختلاف، فلا جميعهم ممشوقو القوام والقد، وليسوا دائمًا على قدر من الرشاقة، يتباينون في اللوحات الاستعراضية الراقصة التي تؤطر أجسامهم، متحررين من الثقل النفسي لكُره الرقص والحرمان منه.

أتابعهم بشيء من الغبطة والحسرة، وأتمنى لو مددت جسدي يومًا مستكشفة قدراته الدفينة، وأنبش عن الحياة الموءودة داخله.

تقاطع أمي الحلم بدخولها وتنظر للشاشة مليًا وتخبرني “إيه اللي بتتفرجي عليه ده؟!”.

 

أرى أمي في الجلسات النسائية سيدة منطلقة برشاقة رغم الوزن الذي أصر الزمن على أن يثقلها به. تخبرني خالتي عن براعتهن جميعًا في الرقص خصوصًا في أيامهن الماضية. تتدافع الأفكار في رأسي عن التناقض الذي يجتاح عقولهن، يرقصن ويتمايلن ويتدافعن ويضحكن، ينظرن إلى الراقصات القدامى بافتنان ويتبارين في تقليدهن، ولكن ذلك غير مسموح لبناتهن في صغرهن، فقط عندما يكبرن.

 

وعندما يكبرن يجدن أنفسهن في ذلك القيد الذي كبل أجسامهن، لا يستطعن اكتشاف بهائهن الداخلي ولا اختبار ثقتهن الخارجية.. مُعلبات داخل أجساد متخشبة بالعيب والتأدب، ولا تعرف معنى الحياة.

 

أفكر دومًا أن لا أحد سيخبر ابنتي عن براعة والدتها في الرقص في شبابها القديم، فوالدتها كانت صاحبة جسد متخشب يهاب الرقص حتى في الخلوة والظلام.

 

***

“لنعدّ كل يومٍ يمر بنا من دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يومًا مفقودًا، ولنعتبر كل حقيقة لا تستدعي ولو قهقهة ضحكٍ بيانًا باطلاً”.. يقول نيتشه.

أحاول أن أجد أرضًا لا تلفظ محاولاتي الخرقاء للرقص، وأترك لجسدي حرية التحدث والتعبير بصفاء وعفوية. أهرب من أشباحي القديمة وأغطي على أصواتها المخيفة بالرقص المستمر لأتخلص منها. لن أكسر المرآة لابنتي أبدًا. ونذهب يدًا بيد إلى استديو رقص الباليه لفترة كي تطوع جسدها للحركة كيفما شاء.

ننصف أنا وهي أجسادنا على الزمن.

 

 

المقالة السابقةأحب الرقص
المقالة القادمةجسد شرقي ضيق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا