“الرجالة مبتعيطش”: دموع الرجل كيف يراها الآخرون؟

2847

“أي أحمق جلف القلب، ذاك الذي قرر أن الرجال لا يبكون” – أنعام كي جي – رواية  “سواقي القلوب

أشاهد فيلم “marriage story“، لا أنحاز للبطلة، ولكني في المقابل لا أتعاطف مع البطل إطلاقًا، أجده متجردًا من أي عاطفة إنسانية، كالشجرة اليابسة الخشنة، لا أرى أي مبررات لما يفعله، هو يعتبرها حربًا يريد الانتصار فيها لمجرد الانتصار، أو كما قال للمحامي إنه يريد أن يثبت لابنه أنه حاول من أجله، حتى لو كان الأمر خاليًا من الحب. حتى جاءت لحظة المشاجرة، وقتها انتبهت لـ”تشارلي”، ها هو إنسان من لحم ودم، يصرخ ويبكي وينفعل، يتشاجر من أجل الإعلان عن مشاعره الحزينة، يبكي من شعوره بالإجهاد النفسي والخسارة لعائلته التي كان يتمنى الحفاظ عليها.

على قدر المشاعر الإنسانية التي طلت من أجواء الفيلم الحزين، إلا أن مشهد بكاء رجل استثنائي مدهش -بالنسبة لي على الأقل- فلم يٌقابل بكاؤه أو حديثه عن آلامه النفسية ومخاوفه من الخسارة بالاستهجان، كما نجد في عدد لا بأس به في السينما أو الدراما العربية، بل على العكس، حاول الفيلم بعذوبة شديدة تأكيد إنسانية الرجل، وحقه في التعبير عن مشاعره حتى لو كان بالبكاء، من خلال ذلك “الحضن” الذي منحته له -للمفارقة- شريكته التي تطالبه بالانفصال، في نهاية المشهد كأنه طفل صغير تطبطب عليه.

أنا مش فارس ولا فتى أحلام

أنا زحمة وربكة وشغل جنان

نصى بيضحك والتاني زعلان

أنا شيخ فلتان.. طيب شرير وجريء وجبان

فريق بلاك تيما – أغنية “إنسان”

يبدو “ريو” عاشقًا مدهشًا، يفعل كل شيء من أجل حبيبته “طوكيو”، على الرغم أن مسلسل “la casa de papel” يصنف كمسلسل تشويقي، يدور فى الأساس حول سرقة البنك المركزي في إسبانيا، إلا إن قصة حبهما كانت لافتة وسط أحداث المسلسل المشتعلة. أبدى “ريو” ذلك الجنون الذي تعشقه كل الفتيات في الحب، فهو لا يهاب شيئًا للتعبير عن تلهفه لـ”طوكيو”، يختار أكثر الطرق الرومانسية مثل الكلمات تارة، وأكثرها جرأة في دعوتها للتسلسل ليلاً لحضور مهرجان شعبي دون معرفة أحد تارة أخرى. وفي أحيان أخرى يلجأ لأكثرها عنفًا، عندما اختار حياته نفسها للتعبير عن حبه، واعترض على قرار تسليمها للشرطة من قبل أعضاء الفريق، بل وأراد تسليم نفسه هو الآخر، ولم يخشَ مسدس “برلين” المصوب تجاه رأسه.

وبين هذا وذاك كان يعمل على طمأنتها أنه سيظل بجانبها مهما حدث، بل إنها عندما طلبت منه بنفسها أن يتركها، وبكت وهي تخبره أنها أصبحت “أرضًا محترقة” بعد وفاة حبيبها السابق ولا تصلح للحب، وأنها أكبر منه بعدة سنوات، أخبرها ضاحكًا بجملة في منتهى الرقة: “أنا لا ألوح بالراية البيضاء إلا في حال واحدة، عند فوز ريال مدريد”.

على قدر هذا الحب العظيم، كان الأمر عينه في الانفصال، فعندما حانت لحظة الابتعاد بين الحبيبين، كان البكاء هو ما فعله “ريو”، رغم أنه صاحب اختيار الفراق، لم يخش “ريو” البكاء أمامها للتعبير عن ألمه من لحظة الفراق، لم يتوقف عن البكاء وهو يستمع إلى أكثر الكلمات إيلامًا له كرجل، و”طوكيو” تخبره أنها لم تكن لتختاره حبيبًا إلا بسبب ظروف عملية السرقة. لم يرَ في البكاء عيبًا أو انتقاصًا من كرامة الرجل كما نفعل في مجتمعاتنا الشرقية.

لا تقلقى يوما عليَّ

إن حزنت

فإنني رجل الشتاء

نزار قباني  – قصيدة “مدخل”

يخبرني حماي أن البكاء ليس للرجال، يبرر قوله بأن عليه أن يتسم بالشدة والجلد، حتى يستطيع أن يمنح القوة لمن حوله، عليه أن يظل جبلاً يصد الريح عن أحبائه. أحب حماي جدًا، وأصدقه، حتى أراه يبكي بعد وفاة أحد أصدقائه، يحدثني، بينما يحاول جاهدًا ألا تلتقي عيناه بعيني، ولا أرى هذه الدموع المتلألئة على طرف عينه، فأدرك أنه لم يصدقني القول في أن الرجال لا يبكون.

أراه متألمًا، يحارب بكل قوة لكتمان ملامح الحزن، وأن يبدو طبيعيًا، فأدرك أن ذلك الدستور الخفي في عالمنا الشرقي بأن “الرجال لا يبكون”، عليه أن ينمحي من الوجود، بعد أن منع الرجال من التعبير عن أحاسيسهم وأحزانهم، فحرمنا نحن النساء أمهات كن أو زوجات، حبيبات كن أو بنات من تلك الرقة العاطفية في نصفنا الآخر، والتي تلون عالمنا الأنثوي البسيط، حتى وإن كانت تلك الرقة خشنة في نهاية الأمر.

ليس من شوق إلى حضن فقدته

ليس من ذكرى لتمثال كسرته

ليس من حزن على طفل دفنته

أنا أبكي!

لست أصحو.. لست أصحو

ودعي قلبي.. يبكي!

محمود درويش – قصيدة “البكاء”

يحكي أحد أقاربي عن علاقته بوالده، وأنه شعر ببعض القسوة منه. تحدث بـ”عشم” عن أن نضوجه في السن أو الفكر، لا يعني عدم حاجته إلى يد حانية، وحضن هادئ من والد هو كل شيء بالنسبة إليه في الحياة. ها هو رجل يشعر، ويعبر عن عاطفته ببساطة، دون خوف من القيل والقال، يبتسم قلبي للحظات، وهو يفكر: لديهم تلك المشاعر الفياضة، ذلك الحنان الخفي، وليسوا آليين أو “سوبرمان” على شكل إنسان، كما يصورون لنا.

من هم الذين يصوروا لنا؟! المجتمع.. الإعلام.. العادات.. التقاليد.. لا ليست الأديان ضمن هذه القائمة.. هو ما أدركته بعد جهد.

أحاول تلطيف الأجواء قليلاً، ثم أنتهى بعبارة “هذه طبيعة الآباء، وطبيعة الرجال، ما الجديد؟!”. أندهش من نفسي، لقد بدا أنني أيضًا تطبعت بطبع مجتمعي الشرقي للمفارقة. كلماتي التي ألقيتها بمبالاة، واجهها هو بانفجار عاصف، كان شخصًا آخر خلف القشرة الهادئة التي تتسم بها شخصيته، بركان يغلي من الحاجة إلى الاحتواء والعطف، وسئم من كتمان الشعور.

بدا للحظات أنه غير مدرك لوجودنا في الغرفة، فقد كان قلبه الذي يتحدث، وليس هو، عن كم الأمراض النفسية التي تصيب الرجال، بسبب تلك النظرة بالغة القسوة لمشاعرهم وعواطفهم، وحتى بكائهم، وأن ذلك إرث ثقيل من الماضي يجب أن ينتهي، ولا تتحمله الأجيال الجديدة، وهو نفسه لن يتحمله. أدركت عندما غادر الغرفة غاضبًا، أنه لم يفعل ذلك سوى لشيء واحد، أن يبكي. كان عليَّ أن آكل كلماتي في صمت، ولم أستطع أن أخفي نسمات الخجل.


ولا تنتهي القصص

لا تتوقف الحكايات عن تلك اللحظات الاستثنائية في حياة الرجال، التي يقررون فيها نسيان العادات والتقاليد وخلع أردية الخجل عن عواطفهم، وذرف دموعهم أمام العلن. تلك الشهب الخاطفة اللامعة، التي تمر في سماء النساء، فترى رفيقها، أب، أخ، زوج، ابن، وقد تحول إلى قلب نابض شفاف، يشعر بالضعف أحيانًا، وذلك الحزن العزيز أحيانًا أخرى، وتنطلق دموعه للتنفيس عما يعتريه من آلام.

الرجالة مبتعيطش

“الرجال لا يبكون”، بالعامية نسمعها بكثرة في جملة “الرجالة مبتعيطش”، يخبرها أحد العابرين لطفلي الصغير، بينما انخرط في نوبة بكاء طبيعية، فقد كان عمره لا يتخطى عامين، أبتسم في حزن وأنا أدرك ما ينتظر طفلي في مجتمع “الرجل السوبرمان الذي لا يبكي”.

نعلم أطفالنا الذكور منذ الصغر، أنه غير مسموح لهم التعبير عن مشاعرهم، غير مسموح بالأخص البكاء. يكبر الطفل، وهو يجد شقيقته وزميلته في المدرسة، والدته، مقدرة المشاعر من الجميع، تحظى بالطبطبة إذا بكت، الاستماع إلى مشاعرها بعناية، فتنشأ بنفسية سوية، بينما هو في صمت عليه أن يخفي تلك المشاعر، فلا نمنحه حتى أبسط الطرق للتعامل معها.

وهكذا تظل الدائرة تكبر وتتضخم، حتى يصبح رجلاً بشنبات، فإذا حباه الله عقلاً رشيدًا، فقد يدرك خطأ تلك المعتقدات، ويعمل التفكير فيها، ويدرك أحقيته كإنسان في التعبير عن مشاعره بكل طريقة ممكنة. وإذا لم يحدث، فقد ينشأ على أن المشاعر ضعف، فلا يعترف بها وبوجودها، بل لا يعترف أساسًا بهؤلاء الذين يتعاملون بمشاعرهم، وهو الخطر، فإما أن يصطدم بهم، وإما قد يؤذيهم، أو تتحول قوته المفرطة إلى قسوة، ينشرها مع أشباهه من الرجال، فتصبح دستورًا آخر، لن تعاني منه المرأة وحدها، بل المجتمع ككل.

الرجال أيضًا يبكون أحيانًا

الحقيقة أن الرجل يولد إنسانًا قبل أي شيء، هكذا كانت كلمة الله في كل الأديان. لا، ليسوا جبالاً مصمتة، لا تشعر ولا تحس، كما تروي جداتنا في حكايات ما قبل النوم، وتحكي قصص ديزني وسندريلا وسنو وايت. بل إن الرجل شريكنا في الحياة، يحزن ويبكي، فيشعر بالانكسار تارة، والهزيمة تارة أخرى، والضعف تارة ثالثة، قد يخطئ، ويحيد عن الصواب، ولا يعيبه هذا، ولا يقلل من شأنه، ودوره في الحياة، بل إن الرجل يريد نثرات من المشاعر هو الآخر مثل النساء، من حب وأمان، ليس فقط في علاقته مع المرأة، بل في كل علاقاته:  الصداقة، الأبوة، الزمالة. يحتاج بشدة إلى الدعم النفسي من حين لآخر.

نغفل ذلك، المجتمع كله وليس النساء فقط تفعل ذلك، فيظُلم الرجل، ويتم تحميله بدور “السوبرمان” الذي لم يطلبه، عليك إنقاذ الكون وإصلاحه، لا تخطئ، لا تظهر مشاعرك، تحمل الآخرين، ساعدهم، قدم لهم مشاعر الدعم والحب، ممنوع البكاء، مرفوضة الشكوى… وهكذا.

نظل نتوقع منه الكثير والكثير، وفي النهاية هو بشر لديه قلب صغير، يجب أن نراعيه، فإذا قال كفى لا أستطيع، نكيل له الاتهامات بأنه لم يفِ بوعوده، وإن جف قلبه نخبره أنه قسا، وننسى أننا كنا من أخبرناه في البداية “الرجالة مبتعيطش”، رغم أن -للمفارقة- الرجال أيضًا يبكون أحيانًا!

اقرأ أيضًا: دليل الرجل لحياة جنسية أفضل

المقالة السابقةالأربعون الربيعي
المقالة القادمةنوبة القلق المتكررة: كيف هي وما فعلته بحياتي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا