الموت
ما هو؟ أين تذهب أرواح هؤلاء الذين توارت أجسادهم تحت الثرى؟ هل عرفوا الغيب؟ هل يروننا ويشعرون بنا؟ هل يسمعون صراخ أفئدتنا؟ هل نراهم في أحلامنا بطلب منهم أم بطلب منا ندعوه “الشوق”؟ أسئله كثيرة تظل تطاردنا، عندما نفارق أحبتنا فراقًا أبديًا.
اختلفت الشعوب والبشر كلها في كل مكان على وجه الأرض في كيفية التعامل مع الموت، سواء بإقامة عزاء والدفن أو التحنيط أو الحرق وغيرها كثير.. ولكن تظل صدمة الوداع والفجيعة في الفقد واحدة.. ألم مفرط نختبره، ودموع منهمرة من حيث لا ندري، وعقل يحاول استيعاب الصدمة الأولى.
الصدمة الأولى
دعوني أحدثكم عن هذه الصدمة الأولى التي يظل فيها العقل مشتتًا، خصوصًا عندما يكون المفقود مقربًا منا جدًا.. في البداية نسمع الخبر. يحاول البعض منا تكرار الكلمة على لسانه ليترجمها العقل “فلان مات.. فلان مات”. يظل الواقع أقوى والحقيقة بينة ويأبى العقل أن يصدق، فنختلس النظر فيمن حولنا علّنا نرى وجه المفقود. ندرك أنه ليس في الجوار فيستدعي العقل مرة أخرى تلك المعلومة التي كنا نرددها منذ معرفتها “فلان مات.. مات.. مات” ثم تحدث لحظة الانهيار والبكاء الشديد بعد صمت دام لدقائق معدودة. نحاول الهروب من الواقع في أشياء صغيرة كسؤال سأله أحد المحيطين، فتخبر نفسك أن فلان الذي مات يعرف الإجابة ولا يستطيع عقلك استدعاء شخص آخر غيره يعرف الإجابة. ثم يقاوم العقل مرة أخرى محاولاً إقناعك هذه المرة أن “فلان مات.. أرجوك ادرك أنه مات.. مات”.
تتذكر ثم تنهار مرة أخرى.. ويطرق جرس الباب ثم يخبرك صوت داخلي ربما قرر الشخص المفارق إنهاء هذه اللعبة السخيفة والعودة إلينا مرة أخرى. لنجد الطارق شخصًا آخر ونعيد الكرة من جديد “فلان مات.. مات.. مات” ولكن هذه المرة يكون الصوت الداخلي أعلى، وبالتالي يكون رد الفعل مساويًا له، فننهار بشكل أكبر ويزداد النحيب والبكاء. ربما ندرك الآن لماذا يصمت أهل الفقيد دقائق ثم يعودون للبكاء وتظل أعينهم حمراء كلما نظرنا إليهم في الأيام الأولى للفقد!
الليلة الأولى
تمر الليلة الأولى وهي الأصعب على الإطلاق، يتقلب كل فرد في فراشه تدور الأسئلة على حسب درجة القرب والبعد، وفي الغالب كلما كانت درجة القرابة أكبر كانت الأسئلة فيها بعد مادي وعملي بجانب الأسئلة العاطفية. بمعنى عندما يموت الزوج أو الأب أو أي شخص مسؤول عن رعية، تكون أسئلة الزوجة واقعية ومؤرقة: من يصرف على الأبناء؟ كيف يتركها وحيدة تعاني تربية هؤلاء الأيتام؟ بالإضافة لأسئلة العِشرة والسنين وذكريات العمر والحب الذي كان. نحاول أن نوقف عقولنا عن التفكير فيغلبنا النوم من شدة الإجهاد طول اليوم، نغلق أعيننا دقائق قد تصل لساعة ثم نستيقظ، ونعاني طوال الليل بين وجع النفس ووجع الجسد.
اليوم الثاني
في اليوم الثاني نستعد لمراسم روتينية، وبيت ممتلئ، ووجوه حزينة، وكذلك في اليوم الثالث. ينفض الجمع بعد أيام معدودات ويعود من حولنا لحياتهم الطبيعية مشفقين راثين لحالنا. ليتركونا وحدنا نبدأ الصدمة الحقيقية، صدمة أكبر بكثير من الصدمة الأولى، صدمة تتكشف فيها الحقائق، لندرك أهمية الشخص الذي فقدناه حيث دوره الذي كان يقوم به فارغًا، حيث روحه التي تسكن كل شيء في مكان إقامته، حيث أشيائه التي تركها وكان يحبها، حيث أعمال غير منتهية تنتظره، وأسراره التي كان يخفيها أصبحت مشاعًا، حيث تخترق مساحته الشخصية ويصبح كل ما يملك متاحًا للآخرين، توزع أغراضه ويورث ماله.
تتوالى المراحل والأيام
في الحالات العادية البعيدة عن الخلافات والعلاقات السيئة بين البعض، يخلف الموت جوًا حميميًا بين أفراد البيت الواحد، ليجلسوا في مكان واحد ويتسامروا ليلاً حول ذكرياتهم مع من فارقوا. أحاديث تتخللها ابتسامات لمواقف مضحكة وبعض الدموع لمواقف مؤلمة. تولد فيما بينهم جوًا حميميًا لا يفهمه أحد سواهم. هذا الرابط فيما بينهم يجعلهم أكثر تماسكًا فيما بينهم مما مضى، يتولد لديهم شعور غريب أنهم يرون الأشياء بعين واحدة، يسهل التعبير عن الأشياء بألفاظ قليلة جدًا، ويكون التفاهم بقدر عالٍ. تتوالى مراحل الاستيعاب وتخفت الصدمة لندخل في محلة الاشتياق الدائم، والأحلام المستمرة نتيجة انشغال العقل الباطن بهذا الاشتياق، ومن ثم ندخل في مرحلة الاعتياد على الاشتياق.
لا ننسى
يظن الكثير أننا ننسى من نحبهم مع الوقت، وأن الحزن لا يدوم للأبد، وأن الحياة ستستمر. في الواقع القلب لا يشفى بعد موت الأحبة، ولكنه يعتاد غيابهم منكسرًا. اليوم أدركت أن عامين كاملين قد مرّا على وفاة أمي، وأني ما زلت أذكر رحيلها كأنه بالأمس.. أدرك أنها غائبة كما غاب أبي منذ عشرين عامًا، أتعامل مع الحياة كما ينبغي وأتحدث عن ذكرياتي معها كأنها منذ أسابيع فقط، ليخونني الزمان والتاريخ الذي يثبت مرور الأيام وأنا على نفس درجة الاشتياق، وعلى نفس الأمل باللقاء. الموت ليس لغزًا في حد ذاته، ولكن من الصعب استيعابه، وفي كل مره نظن أننا أصبحنا أقوى في تحمل صدمات موت الأحبة.. ندرك أن مشاعرنا تختبر نفس الصدمة ونفس الوجع بعد كل حالة.. وكأنها الأولى.
الموت لن يتوقف عن التهام أحبتنا
الآن فقط بعد أن مررت بست حا%8