ينشط الفرد اتصاليًا أوقات الأزمات للحصول على المعلومات التي تجعله يأمن على نفسه وحياته قاعدة حفظتها عن ظهر قلب في أثناء دراستي للإعلام. مرت عليّ الجملة مرور الكرام، قبل أن تضعني السنوات أمام مواجهة فعلية معها لأختبرها عمليًا. تارة بتقلبات سياسية غيرت المشهد كاملاً، لا على الصعيد العام فحسب، وإنما في دواخل نفوس كل منا. وتارة أخرى بتقلبات على الصعيد العالمي بفيروس أصغر من أن نراه، وأكبر من كثير من مخاوفنا. وفي المرتين وجد المرء نفسه أمام مرحلة انتقالية خاصة به تعيد تشكيل عالمه الصغير. مرحلة يحل فيها القلق ضيفًا -غير مرحب به- على النفوس. وكواحدة من أبناء جيل الثمانينيات حظت بسنوات من الهدوء الذهني قبل أن يتشابك العالم وتتعقد أحداثه، أدركت أن منحة جيلنا هي محنته: التكنولوچيا.
نشترك جميعًا في القلق
يتبدل المشهد سريعًا. نقطة تحول غير متوقعة في فيلم درامي كانت أحداثه تبدو أنها تسير برتابة ما. لكن نقطة التحول المربكة تجعلك تدرك أن ما كنت تطلق عليه عبثًا رتابة كان نوعًا من إيلاف النعمة. في لفتة عين، تباعد الرفقة والأحباب، تغير نمط الحياة، صرت تواجه في رأسك سيناريوهات متشابكة بعضها مفزع فتطرده سريعًا من ذهنك قبل أن يفتك بك التفكير. يتصارع إيمانك مع خوفك في اختبار خطر حقيقي يهدد حياتك وحياة أحبابك.
التصاعد الدرامي للأحداث يجعلنا جميعًا عالقين في شيء مبهم، كشف لنا كيف أن الإنسان لا شيء مهما اغترَّ بتقدمه. نترقب يوميًا أرقام الإصابات والوفيات كمن ينتظر نتيجة امتحان مصيري. نواجه الأمر بالنكات أحيانًا لتضليل أنفسنا عن الفزع، وبالتضرع أحيانًا لأن لا ملجأ سوى الله لكشف الغمة. نمارس الهدوء أحيانًا بينما ثمة بعض القلق يسكننا، أو نحيا في قلق دائم يهدأ أحيانًا، كلٌ حسب شخصيته. بينما نشترك جميعًا في القلق حتى وإن تباينت درجاته.
ماذا عن فوضى المعلومات؟!
تعيد الكلية اختباري بعد ما يزيد عن عشر سنوات على تخرجي. تسألني مع كل خبر أطالعه على السوشيال ميديا: ما رأيك في تلك القاعدة عن نشاط الفرد اتصاليًا وقت الأزمات؟ أجيب في حوار تخيلي: يحتاج الفرد للمعلومات ليستعد لمواجهة الأخطار المحيطة، نهلك قطعًا دون معلومات. أنتبه فأضيف إلى إجابتي “لكننا أيضًا قد نهلك بها إن زادت عن قدرتنا البشرية على التحمل”. ثم أطرح بدوري سؤالاً: وماذا عن أزمة فوضى المعلومات؟! ماذا عن كل ذلك الفزع الذي يلقيه في وجوهنا رواد مواقع التواصل الاجتماعي؟!
كيف -بربك- يمكن أن يأمن الإنسان وهو محاط بصراخ طوال الوقت في صورة كلمات يكتبها مستخدمو السوشيال ميديا، في ظاهرها تنفيثًا عن مخاوفهم وفي باطنها نقل الهلع والقلق للآخرين دون قصد، بحجة أن المرء حر فيما ينشر على حسابه الشخصي، دون وعي منهم أن في أوقات الأزمات تنتفي بعض الشيء السمة الشخصية عما ننشره، وتصبح على عاتقك مسؤولية ما بألا تُفزع غيرك، ما دمت إنك غير قادر على الهدوء لطمأنته.
دعنا من فوضى المعلومات، ماذا عن فوضى المشاعر؟! كيف لي أن أحيا في اتزان وأنا مشاعري موزعة بغير عدل بين حماس وتفاؤل ينقله لي ذلك الخبر، ثم بعدها بثوانٍ أختبر الإحباط والقتامة اللذين ينقلهما ذلك الخبر الثاني، لأقف بلا إحساس أمام ذاك الخبر الثالث وهكذا، وكل ذلك في دقائق متقاربة! أي أمان قد يجده المرء وهو يُطحن بلا هوادة في خلاط مشاعر متضاربة في وقت قصير، وبكثافة؟!
بعض الخطوات التي قد تساعد في استعادة الهدوء
قلقي دومًا في الأوقات الحرجة هادئا رزينًا، هكذا يبدو. لكن بعض الهدوء مخيف. يخدعني قلقي ويضلل المحيطين، فقط لأنه غير انفعالي، بينما يعبِّر عن نفسه في نوبات أرق أصارعها كل ليلة، أو في اضطرابات طعام أزيد مما ينبغي أحيانًا أو أقل في أحيان أخرى. تفاقٙم شعوري بالاضطراب الهادئ مع الوقت، فأدركت أنه ينبغي عليّ أن أعقد مع نفسي اتفاقًا، وأؤمن دومًا أن النفس الإنسانية تستجيب للصفقات التي يعقدها المرء مع نفسه، وكأنه شخص آخر يحتاج إلى ترويضه بالحوار واللين والمقايضة. لذا جلست مع نفسي للاتفاق على بعض الخطوات التي قد تساعدني في استعادة الهدوء، ويبدو لى إلى الآن أن صفقتي رابحة، إذ أحرز تقدمًا ملحوظًا في كبح جماح قلقي:
1. تقنين استخدام السوشيال ميديا
قلل من تصفح السوشيال ميديا بتحكمك في مدة استخدامها. لا يشترط في الأمر تحديد ساعات ملزمة للاستخدام، وإنما يكفي أن ينتشل المرء نفسه من الاستغراق في قضاء ساعات طويلة دون أن ينتبه لذلك، لأن وقت أطول في الاستخدام يعني تعرضًا أكثر للأخبار، وقلقًا أزيد بالتبعية.
2. متابعة الأخبار من مصادر محددة وموثوقة فقط
نفتح على أنفسنا بابًا كبيرًا للجحيم، حينما ننخرط في متابعة مصادر لا تنتهي من الأخبار، والاشتراك في كل هذه المجموعات والصفحات المرتبطة بالفيروس، ظنًا منا أننا بذلك نتسلح بالمعلومات في مواجهة الفيروس. فطاقتنا على الاستيعاب قد لا تحتمل شلالات المعلومات التي لا تنضب تلك. ناهيك بعدم مصداقية قدر لا بأس به من هذه المعلومات. فالأفضل الاكتفاء بقدر محدود من المصادر الموثوقة التي تمدنا بالمعلومات اللازمة، دون أن تشعرنا بهلع أننا سنموت حالاً. فإن كنت سأموت بعد لحظة لا محالة، أُفضِّل ألا أحيا هذه اللحظة في هلع.
3. توقف عن متابعة من يصيبك بالهلع ويحيطك بالأخبار السلبية
جميعنا لديه في قائمة أصدقائه على مواقع التواصل الاجتماعي، أولئك الذين لا يتوانون لحظة عن نشر كل ما هو محبط ومفزع، دون أدنى تمييز لمصداقية الخبر، ودون تمييز لتحول حساباتهم إلى مصدر خام لتصدير الأخبار السلبية. احتفظ بالود للشخص ملء فؤادك، لكن لا تتردد لحظة في عدم متابعة (Unfollow) لحسابه لحين انتهاء الأزمة.
4. التنفيث عن الاضطراب بالحديث مع المقربين
الخوف والتوتر والقلق جزء أصيل من إنسانيتنا، ولطالما أعجبني الشخص المتصالح مع إنسانيته بما فيها من نواقص، مع محاولته المستمرة إدارتها بشكل سليم. أما أولئك المُدَّعون بأنهم أقوى من أي حدث فأشفق عليهم من تزييف مشاعرهم، لأن مقاومة المشاعر نتائجه دائمًا كارثية. وهنا تأتي الدوائر المقربة كمصدر دعم يمكنه المساعدة في إدارة الخوف.
فتِّش في دوائرك الصغيرة عمن يمكنه مشاركة خوفك وارتباكك وتفهُّمه. استخرج مع أحبابك كل تلك الضوضاء التي تزحم رأسك، سواء تليفونيًا أو عبر محادثة إلكترونية. ولا تنسَ أن تفسح لهم المجال أيضًا للتنفيث. فإن كان يقال عن السعادة إنها عند القسمة على اثنين تزيد، فالخوف عند مشاركته بين اثنين تخفت حدته، وكما يقول فريد عمارة: “على الأقل نخاف معًا”.
5. مارِس أي نشاط بدني في حدود الإمكان
بخلاف أن الرياضة في المطلق لها فوائد صحية عديدة، إلا أنها قد تكون ما نحتاجه في هذه الأيام الاستثنائية، للمساعدة في الهدوء وتقليل التوتر. خصوصًا إذا كنت واحدًا من هؤلاء الذين لا يجيدون التعبير عن قلقهم سواء بحكم طبيعتهم، أو لأنهم يمارسون دورًا اجتماعيًا ما يتطلب منهم أن يبدوا ثابتين. أي رياضة من أي نوع يمكن أداؤها في المنزل قد تفيد. أي نشاط بدني حتى وإن كان إعادة ترتيب وتنظيم غرف المنزل قد يساعد في تفريغ الطاقة وإعطاء العقل هدنة للتفكير في أمور أخرى، غير الهلع من الفيروس.
6. انتبه لما تفعله قبل النوم مباشرة
لن أنسى ما حييت أن عند تعرضي لفترة ضغط عصبي سابقة، كان دواء الطبيب حينها أن أستمع لموسيقى هادئة أو أفعل نشاطًا محببًا قبل النوم. كنت أنظر إليه كالبلهاء حينها، لكني عند التطبيق أدركت أن آخر ما يقعله المرء قبل نومه، وكذلك طريقته في استقبال الساعات الأولى للصباح تؤثر بشكل كبير في حالته المزاجية على مدار اليوم.
7. الامتنان لما تملك والتسلح بالإيمان
بدأنا الضجر من الحصار الذى نشعر به في الحجر المنزلي. ماذا إذًا عن ضجرك مسبقًا من روتين حياتك الذي تتمني معاودة عيشه الآن؟
هذا ببساطة ما أردده على نفسي في أي لحظة يبدأ فيها الملل بالتسلل إليَّ. أعيد تذكير نفسي بأن هذا الحصار في حد ذاته مليء بالنعم: منزل وفراش وطعام نظيف وأهل وصُحبة أتواصل معها عن بُعد، فتمدني ببعض الونس. أعيد تذكير نفسي يوميًا أنني إن كنت محاصرة بابتلاء فالنعم أيضًا تحاصرني. أحاول شحن إيماني بالامتنان لكل هذه النعم، وبتذكير نفسي أن رحمته تسبق غضبه. وأن الله لطيف لن يردنا أبدًا خائبين طالما نواصل طرق بابه.
برمت بنود اتفاقي مع نفسي لهزيمة القلق واستعادة الهدوء. وما إن انتهيت دخلت إلى حسابي على فيسبوك في الوقت الذي حددته لنفسي. لأجد أول ما تقع عليه عيني جملة للكاتب عبد الرحيم كمال يقول فيها: “أعلى نقطة مناعة هي الحالة النفسية”، فابتسمت.
اقرأ أيضًا: تخلصي من القلق: 10 أشياء تشغلِك عن التفكير في كورونا