الأمومة مضطربة جدًا: من أين نبدأ تطوير الأطفال؟

1395

في الأمومة أنا “هنا” لكني أريد أن أكون “هناك”، هذا هو بيت القصيد، أو بتعبير أكثر رواجًا “مربط الفَرس”، الذي استخدمه الكاتب الألماني إيكهارت تولي، في تعريف التوتر، وهو تحديدًا شعوري الذي باءت محاولاتي كلها بالفشل، بينما أحاول تعبئته في حروف وكلمات، لديها قدرة الرضيع الجهنمية في التعبير عن ضيقه ركلاً ورفسًا، دون أن يلقي بالاً لغضب أو تأفف الآخرين.

هل راودتكِ يومًا تلك الأفكار التي راودتني ذلك المساء الأسود، بأني الأم الأسوأ على الإطلاق، وأن “زين الدين” صغيري الذي ينتظره قطار العمر في محطته الثالثة بعد أقل من ثلاثة أشهر، كان يستحق أمًا تفوقني صبرًا عليه ويقينًا بأنه معجزة، تستحق أن تُكرَّم بالإيمان المطلق.

أقدر كونكِ تفهمين ما تحاول كلماتي البوح به على استحياء رغم تشتته، فالاعتراف بالخطايا وسد ثغرات الوهم بالحقائق فضيلة ثقيلة، وإذا كانت الخطيئة صفة بشرية فدفن الأعناق هروبًا من الاعتراف بها صفة أكثر منها بشرية.

أنا هُنا.. أم في مقتبل العقد الثالث من عمرها، مُتحَفَّظ عليها من قبل أحلامها، التي لا تكف عن الغليان، والتي تُبيح فرص الواقع مزاولة عدد محدود جدًا منها، وذا الصغير الذي تورطت في تفاصيله حد السحر، والذي بات يستخدمها كهوية تعريفه بالعالم. يتوعدها العالم بين الفينة والأخرى بالفقد والفراق، ويخبرها الهلع أن السبيل الوحيد للنجاة هو الحرص الشديد، بل وحتى المبالغة الشديدة به، بينما تنصب لها الوقائع فخاخًا متجددة عبر شريط الأخبار أسفل الشاشة، فأي مجنونة قد تخاطر بسلامة وأمن صغيرها فداءً لتطوره ذهنيًا واجتماعيًا ولغويًا بإلحاقه بإحدى رياض الأطفال التي تضمن له هذا التطور سريعًا رفقة أقرانه، أو صحيًا وجسمانيًا بإشاركه في إحدى الرياضات بالنادي الرياضي مثلاً.

ولكني أريد أن أكون هناك.. حيث الحياة ما قبل كورونا، تلك الحياة التي ما زال صدى الضجر من رتابتها وسرعة أحداثها -في الوقت نفسه-مسموعًا رغم زحام الشكوى، فقد صارت أبسط أحلامي أن يحصل صغيري على جرعته من التطور واللياقة، دون حسابات تذكر، دون أن يقض الخوف مضجعي ليلاً ويكسو سلوكي نهارًا العصبية والغضب الشديدين في وجه كل وأي شيء، وتتأرجح شهيتي بين الإشراق والخفوت الشديدين، فتعتل صحتي وحالتي النفسية معًا.

اختيارات مصيرية

بينما يكتظ المحيط من حولك بالأمهات القلقات على غد صغارهن، لا بد لكِ من خطوة للوراء، تخرجين فيها من الإطار، ومن ثَم تقومين بعدد من الاختيارات المصيرية في حياة صغيرك.

ما الشيء تحديدًا الذي تودين تقديمه إليه، التطور وضمان النمو والتفاعل السليم، أم التخلص من ذلك الصداع المتجدد في رأسك والذي لا يكف عن إخبارك بأن صغيرك يجب أن يلتحق “بـnursery لأن كل صاحباتي عملوا كده”؟ هل لديكِ وقت خالِ من التأفف والضجر تمامًا كي تقدمينه إلى صغيرك هدية ثمينة منتقاه بعناية وحب؟ هل يحتاج سلوكه إلى شيء من التدارك والتقويم خلال هذه الفترة، قبل الشروع في أي خطوات على سلم التعلم؟

أين البداية؟ وما المصدر الذي يجب أن تعتمدي عليه في استقاء معلومة تريدينها؟ وكيف السبيل لأكثرها أمانًا؟ بمنتهى الصراحة هل بمقدروك اجتياز تلك المرحلة معه دون طلب مساعدة من متخصص او حتى صديق، أم أن الصراخ والعنف سيكونا خطتك السريعة نحو منحدر الفشل؟

مرآة الطفل

الحقيقة التي انتهى إليها غالبية العاملين في حقل التربية، هي أن الطفل يولد صفحة بيضاء تمامًا، وسطور تلك الناصعة يسطرها المحيطون بشكل لا شعوري، فإذا كان سلوكك يميل للعصبية والعنف والعناد تأكدي أن طفلك سيرثه عنك بتفاصيله التي لا تعلمين شيئًا عنها، فالأم مرآة صغيرها. مثلما فعل “زين” معي ، فخلال المرحلة المرضية للقلق التي مررت بها، قبل أشهر معدودة، وحوّلتني لشخص شديد التوتر والعصبية، وجدته يتحول من طفل مطيع وهادئ ولطيف جدًا إلى وحش كاسر، يغضب على الكبيرة والصغيرة ويرفع صوته على ابنة عمته، فقط لأنها شاركته لعبته، حتى وصلت به الحال لضربها!

إذا شعرتِ خلال السطور الماضية بضيق، كونك فَعلتِ فِعلتي مرات ومرات حتى تحول سلوك صغيرك المتقلب لنمط مستقر في شخصيته يحتاج لتدخل متخصص، فرجاء رفقًا بنفسك، فالحياة دومًا تعطينا متسعًا للإصلاح، وهذا نوع من العدل في ظل دوامة الضغوط التي نستقلها جميعًا دون استراحة، فالإصلاح دومًا ممكن، إذا ما أردناه حقيقةً لا مجرد شعارات، خذي القرار وهدئي من روعك ما استطعتِ، وانتظري انعكاس صورة صغيرك الرائعة في المرآة.

Fair enough

من أخبركِ أن الوقت صار متأخرًا على تقويم سلوك صغيرك المزعج، يريدك أن تأكلي نفسك حية. ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن السطور القادمة في صفحات صغيرك الناصعة ستحمل طابعًا ورديًا، فالمهمة جد شاقة، وعلى قدر أخطائك ستكونين مطالبة بالتحلي بالصبر والإيمان، سيرمي الصغير اللعبة في وجهك تعبيرًا عن غضبه، وستنسلخين من الموقف وكأنك لستِ جزءًا منه وبوجه خالٍ من التعبيرات، ستحاولين جذب اهتمامه لشيء آخر، بينما يزمجر هو ويتمادى أكثر فأكثر، ليفاجئك بما في جعبته من غضب، لا بد أن تستمري على عهدك بالهدوء والصبر.

٢١ يومًا حتى يصير السلوك العابر طابعًا وعادة، وأظن أن هذا Fair enough، ولا بد أن أخبرك بواقعية أن المحاولة الثانية لإصلاح سلوك خاطئ تم تعديله من قبل، تكون أكثر صعوبة من سابقتها، وهكذا. فرفقًا بنفسك وبصغيرك أيتها المحاربة.

من أين يبدأ التطور

إذا كنتِ إحدى هؤلاء الأمهات، اللواتي يلاحظن كل كبيرة وصغيرة تقع لصغارهن، ستكتشفين أننا بحاجة لاكتشاف هذا العالم العجائبي لصغارنا، وليس صحيح أننا من نعلمهم ونخبرهم بما لدينا من معلومات، فمراحل تطور الطفل من عمر يوم حتى ٣ سنوات، في كل تفصيلة منها قادرة على إبهارك وإخبارك أن المحدود الأوحد في المشهد هو تلك النظرة التي ينظر بها بعض الأهالي لصغارهم، بأن عقولهم بسيطة “مش فاهم حاجة”، “لسة بدري عليه قوي”. فجهلك بما يدور خلف الباب، لا يعني بأي حال أن ما من شيء بالداخل.

نقطة تحول

أنتِ لا تحتاجين لأكثر من التجربة حتى يكتمل إيمانك وتشتعل عزيمتك وتمضِين للأمام، خلال رحلة اكتساب طفلك لمهارات جديدة وأيًّا كانت الاختيارات المصيرية التي قمتِ باختياراها عنه، ستكتشفين أن نقطة تحول في حياة صغيرك على وشك أن تحدث. حاولي أن تثمني قيمة الإنجاز معه. لا تنصتي لحديث قريب أو بعيد يحاول ساهيًا تعطيل عربة الإنجاز خاصتك، فأكثر الناس دراية بتطور صغيرك وكونه مُرضِ ومناسب لعمره أو لا هو أنتِ.

ولأن مجالات وموضوعات التطور وتنمية قدرات الأطفال خلال تلك المرحلة كثيرة ومتشعبة، ضعي جدولاً بأهم المهارات التي يحتاج صغيرك أن يحصل عليها، ولا تغفلي عن وضع تلك الأشياء التي أبدى الصغير اهتمامًا ملحوظًا بها على رأس القائمة، وابحثي في أصول تعلم المهارة من جذورها، إذا كنتِ في مرحلة تمهيدية لا تثقلي صغيرك بكثير من المهام، ولا تنتظري حتى تعطيك نفسيته ضوءًا أحمر مفاده أنه قد أصيب بالملل.

وإذا كنتِ قد خضتِ شوطًا كبيرًا وعلى وشك أن تعلميه الإمساك بالقلم مثلاً، للتمهيد للرسم والكتابة، عليكِ أولاً تهيئة البيئة لذلك النشاط، وذلك عن طريق العمل على تقوية أصابع الأيدي بالألعاب اليدوية، كالصلصال مثلاً، ونقل المجسمات الصغيرة من طبق لآخر، إما باستعمال اليد مباشرة أو باستخدام ملقاطًا لمضاعفة النتيجة بتدريبه على التحكم في الأشياء، وكذا إكسابه مهارة التآزر البصري وتنمية الانتباه والتركيز لديه. والشبكة العنكبوتية مليئة بكل ما تحتاجين لمعرفته في هذا الصدد، سواء كانت خطتك إخباره بالألوان أو الأشكال أو غيرها.

المكافآت المزدوجة

أكثر ما يبحث الإنسان عنه في الحياة ليس الثراء أو التحقق أو النجاح، ولو كان الأمر هكذا لبلغ الأثرياء والناجحون مبلغًا من الرضا، كان كفيلاً جدًا بجعلهم منعمين بسلام وراحة نفسية أبدية، لكن في حقيقة الأمر نحن نسعى لأن نكون مرضيًّا عنا من المحيطين بنا، وواحد من مصادر فخر وإعجاب أحبائنا، بل والعالم أجمع إن استطعنا، نحن نبحث عن نظرة الإعجاب والانبهار القادرة على ضخ الأدرينالين أكثر في عروقنا، مما يفعل الإنجاز نفسه.

هكذا أطفالنا، جزء أصيل من تطور قدراتهم مبني بالأساس على تلك الصيحة المهللة بعد نطقه لكلمة كانت بالأمس عصية على النطق، أو ذلك الحضن الصباحي المفعم بالانبهار لكونه ذهب لإنجاز مهمته الخاصة بالحمام بمفرده، لذلك فالمكافأة أمر هام جدًا في عملية التعلم. صغيرك يعجبه كونه قام بشيء أثار إعجابك، ويأسر قلبه كونك قررتِ مكافأته عليه بلعبته المفضلة، فلا تغفلي عن ذلك الكنز أبدًا.

ومثل الأطفال نحن الأمهات والآباء، نحتاج لتذكير أنفسنا بحجم الإنجاز الذي قمنا به والاحتفاء به حق الاحتفاء، لذلك لا تغفلي أيضًا عن مكافأة نفسك على التطور ذاته الذي قمتِ بمكافأة صغيرك عليه، ولا تنسي أنكِ كنت حجر الزاوية لهذا الإنجاز الصغير العظيم، والمكافأة المزدوجة ستثير حماسك لاستئناف ما بدأتِ كلما تسبب شعور فاتر بإطفائها.

اقرأ أيضًا: أمهات في ليالي الحظر: لا يوجد متسع للضحك ولا البكاء

المقالة السابقةكيف أدمنت النساء التسوق الإلكتروني: الأسباب والعلاج
المقالة القادمةأسرار العلاج بالسيكودراما وخطوات العلاج
منى وهدان
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا