يرعبني أن أكون أمًا

679

ويرعبني أن أكون أمًا وتختزل مثالية أمومتي بين تدريب السباحة واجتماع أولياء الأمور في المدرسة الدولية، والحفاظ على الخروج مع أبنائي وأبيهم سواء برضى منه أو على غير رضا، للحفاظ على الواجهة الاجتماعية. ثم أكون بطلة إذا ما وفيت احتياج زوجي وبيتي وأبنائي، والحفاظ عليهم من العُقد النفسية ومتابعة توجيهات الإرشاد النفسي.

لا أدري من الذي وضع هذا النموذج ليَحتذي به كل أبناء جيلي! لا أدري أي أمومة تلك التي وُضِع لها مسار محدد ونقاط، علينا أن نحذو حذوها، وإلا فالشتات الشتات. لم يعد للقلب والارتجال مجال في هذا العالم الرقمي البحت، حيث ننسى فيه غرس الهوية، وأنا هنا لا أتحدث عن الهوية الوطنية، بل عن الهوية العربية، تلك التي لا يمكن أن تتزعزع بالمغريات.

لست أعلم من أين أتت كل هذه الطرق التربوية الحديثة!

في الأعوام القليلة الماضية بدا أن كل أمهات جيلنا يسعين لتربية أبنائهن بطرق عديدة ومناهج أعدها مختصون تربويون، وتعددت الطرق والمناهج لتعدُّد واختلاف الثقافات، فلم نراعِ ذلك وقطفنا من كل بستان زهرة. كل ما أراه -من خلال عملي مدرسة- هو جيل مشتت بعيد كل البعد عن هويته، متشبع بثقافة الغرب، مسخ من المسوخ المُسيَّرة لا المخيرة. قوالب.. نعم كلها قوالب جاهزة، صُمِمَت خصوصًا لنحبس أنفسنا داخلها ونتقيد بمناهجها، وقد أثبتنا -نحن أمهات جيلنا- أننا غير قادرات على مواجهة ما يسمى بـ”الترند”، سنسير معهم حتى لا نتخلف عن الركب، حتى لا نُنتقد، ونرتقي بمستوانا الاجتماعي.

المدارس العالمية

تجد الأسرة المتوسطة تكافح وتعمل جمعيات ليدخل أبناؤها مدارس، أقل ما يقال عنها إنها مؤسسات ربحية بحتة. وكلما ارتقى المستوى الاجتماعي نتوجه نحو المدارس العالمية التي تعتمد مناهج أجنبية هروبًا من المواد القومية، أو بمعنى أصح هروبًا من الهوية. ولأنني أعمل في واحدة من تلك المدارس، فيمكنني بروح ساخرة أن أخبركم أن هذه المناهج لا تناسبنا، كأنك قررت أن تذهب إلى الهند وأنت ترتدي ملابس تناسب درجة حرارة روسيا. تجد الطفل يشير إلى بلده على الخريطة مشيرًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، ويتحدث عن الأمطار التي تهطل في فصل الصيف، وحيوانات تعيش في مناخ لو اختبرته في مصر لماتت من فورها.

لا يمكنك أن تدفع عنه القدر

بغض النظر أني يومًا ما لن أحتمل وجود أبنائي في المدارس الأخرى، وكأني ليس أمامي خيار سوى تعليمهم منزليًا أو القبول بفكرة أن أكون أمًا مجنونة فوق رأس أبنائها أو جاسوسة سرية، أفتش عن بقايا علبة سجائر في حقيبة ابني أو جوابات غرامية ووردة جافة بين صفحات كتاب ابنتي.. سأخنقهم لأني لا أثق بأحد، وأخشى أن أحرمهم أن يعيشوا بحرية دون ضغوط مني. هذا ما أشار إليه المشهد العبقري في فيلم “نيمو”، عندما كان يبقي على ضياع ابنه وهو يحكي لـ”دوري” عن الوعد الذي وعده لابنه أنه لن يدع شيء يحدث له، فقالت له “دوري” إن هذا وعد غريب، لا يمكنك أن تدفع عنه القدر. هذه بعض القوالب السخيفة الفاشلة، إذ لا يمكننا أن نكون بجانبهم طوال الوقت، ولن نكون.

أمهات جيلنا

أمهات جيلنا أغلبهن سيدات عاملات ناجحات، تنتهي من العمل وتعود مسرعة لتكون مثل أمها ربة منزل، تمارس الأمومة بأنماط سمعت بها أو قرأت عنها في مدونات أو صفحات معنية بالتربية، ثم تجوّد وتزوّد على طريقة أمها، ما بين طرق تربوية حديثة وتمرين السباحة وتمرين كرة السلة، ثم الفنون القتالية، ثم الفنون الإبداعية، تخالط مثيلاتها في النادي وتنفتح أكثر وتجرب طرقًا أخرى جديدة في فأر التجارب الخاص بها.. حتى ينتج في النهاية طفل ليس له ملامح. مشوَّه من كثرة التجارب والضغط المستمر والقوالب التي لها نمط واحد تحت مسمى “كي تكون أفضل”.

رأيت أطفالاً كثيرين

قابلت الكثير من تلك القوالب، وكنت أقاومها في البداية، حتى استسلمت لكونها أمرًا واقعًا، أحدث نفسي يوميًا حتى لا أقع في قالب منهم يومًا ما، ربما لهذا ما زلت أرى أنه من المناسب جدًا الامتناع عن الإتيان بمزيد من الأطفال في هذا العالم البائس. فقط لأني رأيت. رأيت طفلاً نائمًا على كتابه أثناء الحصة لأنه يتمرن خمسة أيام في الأسبوع استعدادًا للبطولة. فالرياضة لم تعد مكملاً لشخصية طفل وبناء جسده، ولكنها أصبحت هدفًا في حد ذاته، مدعاة للتفاخر وإكمالاً لحائط البطولات الذي يزين مدخل المنزل.

ورأيت طفلاً يقايض غداءه الصحي الذي أعدته أمه بشريحة واحدة من البطاطس المقلية الممنوع  منها ومن كل الأطعمة في السوق، لأن أمه تقوم بمبالغة شديدة بصنع كل شيء في البيت، وهو يتوق شوقًا إلى شرائه. ورأيت آخر يقذف أنواعًا عديدة من الشوكولاتة ليلتقطها زملاؤه من الأرض، حين أخبرته أمه أن ينشر البهجة، ورأيت آخر يجيد ثلات لغات، لغته الأم ليست واحدة منها.

المبالغة في التربية

ثم يأتي دور مجموعات  الأمهات للدردشة والنقاشات الفارغة بدلاً من ترك الأطفال يخوضون تجربة حل النزاع بأنفسهم، والتنافس في عمل الأنشطة الطلابية أصبح تنافسًا بين الأمهات، في الغالب لا يشترك الأطفال فيه من الأساس. المبالغة في التربية أتت بنتائج عكسية، الناجون فقط من هذه المبالغة هم الذين تركوا مساحة للظروف والأقدار ومساحة التربية الذاتية أن  تأخذ مجراها الطبيعي في تكوين شخصيته دون تدخل مستمر. تلك المساحة التي يلتقط فيها المتربي أنفاسه بعيدًا عن الأوامر والنواهي وحقل التجارب والقوالب الجاهزة. مساحة لإظهار شخصه كي يقول يومًا ما أنه فخور بإنجازه الحقيقي، ليس إنجاز ذويه كي يكون.

التربية الحقيقة

فلو نظرت يومًا إلى مجرى السيل على الجبل ستفهم قصدي، ستجد فيه جمالاً لا يقاوم، وحين سألت البدو كيف يتعاملون مع ضرر السيول، أخبروني أنهم لا يتدخلون لتغيير مجرى السيل إلا مع الخطر الجسيم. غير ذلك يتركونه يأخذ مساره الطبيعي ويروي أرضهم. إذًا التربية الحقيقة هي إرشاد للمسار الذي يختاره المتربي، ليست مسارًا إجباريًا يجب أن يسير فيه المتربي.

المقالة السابقةنساء بلادي ومتلازمة المحتال
المقالة القادمةصراع الأجيال

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا