تنتشر كل فترة على صفحات المواقع الاجتماعية، منشور يكون محتواه (ماتتجوزوش – ماتخلفوش)، ينال هذا المنشور نصيبه من (اللايك والشير) ولكنه يحصل على نصيب الأسد من اللعنات والسب وأن صاحب هذا البوست أوفر ولا يقدّر نعمة الصحبة والخلفة والأولاد، رغم أن غالبية هذه النوعية تقول لا تتزوجوا إلا إذا وجدتوا كذا وكذا، ولا تنجبوا إلا إذا رأيتم في أنفسكم تحمل المسئولية لأن الخلفة ليست هيّنة وكذا وكذا.
الصورة الذهنية الأزلية للأمهات أنهن مضحيات، لا يأكلن مقابل أن يأكل أطفالهن، لا تصدر منهن أي شكوى لأنه لا توجد أصلًا ما تشكو منه، أضيف عليها صورة ذهنية حديثة لأم (سبور) تجلس على الفيسبوك تضع صور أطفالها وهم مبتسمين، يذهبن إلى مصورين محترفين لتصوير لقطات مثالية، يضعونها على حساباتهن الشخصية متوهمات وكاذبات على أنفسهن قبل غيرهم أن حياتهن رائعة، حتى إن اشتكوا من العيال والمواعين وطلبات الزوج، فإنهن يضعنها في قالب كوميدي، مثل ذلك الذي تقوم به صفحة شهيرة على الفيسبوك، لذلك كل من تقول كلام خارج إطار الصورة الذهنية تصبح مكروهة بشدة، رغم أنها لم تنطق سوى الحقيقة.
منذ فترة قرأت تعليقًا لإحدى السيدات على موضوع غير موضوعنا هذا، ولكنه صالح لتفسير الكثير من المواقف العدائية بلا مبرر، قالت أنها تكره كل من تفعل “كذا” لأنها قامت بفعل لا تجرؤ هي على فعله. وفي أقاويل أخرى يقولون أنهم يكرهون من تفضح ماكان مستورًا لأنه عكس الصورة الذهنية المرتبطة بهذا الموضوع، أيًا كان هذا الموضوع. هذا يفسر الكثير من الكراهية التي توجّه إلى كاتبات مثل هذه المنشورات، أنهن قررن أن يفضحن المستور ويتكلمن في مواضيع لا تجرؤ الغالبية العظمى على الكلام عنها.
إذًا سأخرج عن إطار الصورة الذهنية التقليدية وأتجه بخطوات ثابتة لأصبح مكروهة جديدة، نعم الخلفة والإنجاب نعمة وضحكة ابنك/ بنتك تساوي الدنيا ومافيها، لكن هذه الضحكة هي جزء ضئيل جدًا من اليوم، باقي اليوم؟ طيب باقي الشهر؟ طيب الولادة والرضاعة؟ المدارس وما يأتي مصاحبًا لها، كل هذا هو جحيم، لو كنتِ من الذين أنعم عليهم الله بولادة سهلة أو طفل لطيف لا يمرض ولا يتشاقى فاحمدي الله وأرجوكي بالتزام الصمت، وإن كنتِ مررت بتجربة أليمة ولكنك تجاوزتيها ولا تعلمي كيف للآخرين أن يشكو وهم لم يمروا بما مررتي به ورغم ذلك لا يتوقفوا عن الشكوى، فأرجوكِ أيضًا بنفس الرجاء، فليس كل البشر مخلوقين من قدرة احتمال جسدية ونفسية واحدة، ناهيكِ عن أنهم غير مطالبين بأن يعاقبوا بسبب قدرتك الشديدة على التحمل، فهي بالتأكيد ليس مقياس.
يقولون أن مثل هذا الكلام يلقي الرعب في قلوب الحوامل أو من تريد أن تنجب أو أو أو، ناسين أو متناسيين أننا مجرد نقول الحقيقة، نعرض الجانب السئ إلى جانب الجزء الجيد، ننبه وننوه أن على من لا يستطيع تحمّل المسئولية ألّا ينجب المزيد من الأطفال بلا تربية وبعقد نفسية، ما الغريب في هذا الكلام؟ هذا بغض النظر أيضًا عن الجوانب الإيجابية التي تحدث بسبب معرفة كل الجوانب قبل الإقدام على الإنجاب.
في حكاية تحكيها سيدة أمريكية كبيرة في السن، تقول أنها عندما أنجبت طفلتها (منذ أكثر من 30 عامًا الآن)، عاشت أيامًا وشهورًا سوداء، تبكي فيها بحرقة وهي تنظر لصور الأمهات مع الأطفال في المجلات وتتساءل ما الخطأ الذي ارتكبته حتى تصبح أم سيئة لا تستطيع الاستمتاع مع طفلتها كما هو موضح بالصور، تتحدث مع صديقتها وتحكي لها كاذبة عن روعة الأمومة، ثم تغلق السماعة لتستكمل البكاء. في يومٍ من الأيام تفتح المجلة لتجد رسالة من قارئة تقول فيها أن الأمومة صعبة للغاية، وأنه لم يخبرهم أحد بذلك، أنها تظن يوميًا في نفسها أنها أم سيئة وأنه لم يكن عليها أن تنجب طالما لا تستطيع أن تكون بهذه السعادة والفرحة بطفلتها. تتصل صاحبة الحكاية بصديقتها لتخبرها بأمر رسالة المجلة، لتكتشف أن صديقتها نفسها هي من أرسلتها، لأنها لم تجد من هو في مثل حالتها، وأنه كلما اتصلت بها صديقتها وجدتها سعيدة للغاية، فاستنتجت بالتالي أنها أم سيئة.
إظهار الجانب الإيجابي فقط له أضراره الرئيسية أكثر من إظهار الجوانب السلبية فقط، لأن بناءًا عليه تظهر وتترسخ جمل كليشيهية مثل (انتي هتعملي فيها بطلة ما القطط بتولد في الشارع)، و(يعني انتي فاكرة ماحدش خلّف غيرك) و(ما كلنا خلفنا إلا ما حد فينا عمل اللي بتعمليه)، هذه الاستهانة الشديدة بفكرة الألم أو المجهود الذي تبذله الأمهات، تأتي مباشرة من فكرة نشر الإيجابيات فقط و(أنا ولدت من هنا وكنت بالليل باطبخ لهم العشا)، وكانت كل السيدات اللاتي تعاني تضطر إلى الصمت حتى لا يقال عليها مدللة ولا تستطيع التربية مع مصمصة الشفاه.
لذلك لن أتوقف عن ذكر اكتئاب الحمل والولادة والذي لم أتعاف منه حتى الآن، ولن أتوقف عن ذكر صدور الأمهات الدامية بسبب الرضاعة، ومشهد صديقتي التي كدنا أن نفقدها في ولادة ابنها لولا عناية الله والحمد لله، والذي بالمناسبة يبدو أن الكثيرين يتناسوا أن الولادة القيصرية هي عملية جراحية، ولكن الكثيرين يعاملونها معاملة من أصيب بدور رشح بسيط. لن أتوقف عن ذكر عدم النوم وعدم الأكل ووجع القلب عندما يمرض طفلك وأنت لا تملكين له شيئًا، وعن عدم وجود لبن في صدر الأم والنظرات الحارقة التي يرميها بكِ كل شخص والتي تحمل مدلولًا واحدًا (حرام عليكي أو انتي أم مهملة) والتي قيلت لي من قبل بشكل مباشر.
أغلب أمور الدنيا الطبيعية لها وجهين، إيجابي وسلبي، لا يجب ذكر واحد بدون الآخر، وخاصة لمدة أجيال وراء أجيال، ما يحدث الآن هو مجرد محاولة لعدل الميزان، لإلقاء الضوء على الجزء المسكوت عنه والمجهّل عنه عن قصد. هل قراءة هذه المنشورات تحفز التركيز والتنبيه على مدى مسئولية إنجاب طفل إلى هذا العالم؟ شئ عظيم، مع العلم أن أغلبية من قرأن هذه المنشورات قمن بالإنجاب فعلًا بعد قراءته، كل ما هنالك أنهن أنجبن أطفالهن وهن يعلمن ما ينتظرهن فيستعددن له قدر ما يستطعن.
في البلاد المتحضرة، يتم تجهيز الأم وإرسالها إلى مراكز متخصصة للأمومة والطفولة للاعتناء بها وتأهليها نفسيًا ومتابعتها طول فترة الحمل وبداية فترة الأمومة، لا يخفون عنها شيئًا، وهذا هو دور هذه المنشورات لعمل ما يجب أن تفعله المؤسسات المتخصصة غير الموجودة في مصر. لتنبيه أن الإنجاب ليس شيطان رجيم ولا حكاية ملائكية نزلت من السماء، الإنجاب هو فعل في الحياة، ملئ بالكثير من العذابات الجسدية والنفسية المتتالية، وبالإحباطات والإنهيارات وخيبات الأمل، وبفترات طويلة جدًا جدًا من البكاء والوحدة، ولكن يتخللها أوقات مرحة مع الطفل، روعة الابتسامة البريئة بدون أسنان، حركات اليد التي تترجى منك أن ترفعيها إلى أعلى وتضميها إلى حضنك.
الإنجاب هو دورة أخرى في حياة الإنسان، خطورتها تكمن في أنها تحتوي على بدء حياة جديدة لإنسان آخر مسئول منك مسئولية كاملة، كل ما هو مطلوب منك، أن تفكري جيدًا في هذه الخطوة، ولا تقدمي عليها إلا وأنت في كامل استعدادك.