عن ذوي متلازمة داون (2): تعلمت أن أرى

1581

إن لم نر الظواهر حولنا تبدو كأنها غير موجودة“.

 

نريد من القريب الذي اخترناه أن يسبر أغوارنا، يتفهم دواخلنا، يعرف ما نحتاجه بالضبط ويقوم به.. يدرك ما يغضبنا ويعطل أحلامنا ويزيحه عن حياتنا، وبالطبع لا يقترفه.

 

لكن هل فكرنا يومًا ككبار في أطفالنا بهذه الطريقة؟

أقصد هل تعودنا أن نرى بالفعل أطفالنا.. نتمكن من استيعاب ألغازهم.. ننفذ إلى احتياجاتهم ونلبيها بالشكل الأمثل؟

بالطبع لا أتحدث عن حاجات الطفل الفسيولجية الأساسية، وما أقصده يتخطى تحقق أطفالنا الدراسي أو تقييمنا لذكائهم بالطرق المعهودة.

 

تجربتي كأم لطفلة من ذوي متلازمة داون منحتني الفرصة لكي أتأمل بتأنٍّ القدرات الفطرية للطفل واضمحلال (ضحالة- قصور) معاييرنا في تقييمه.

الطفل الذي نعتبره مرآة تعكس ما ترى، أو عجينة لينة نود لو نشكلها طبقًا لاعتقاداتنا وتقاليدنا وعاداتنا، وخبراتنا في الحياة.. ناكرين بإجحاف قدراته الفردية وشخصيته الفذة التي تحتاج ما يصقلها لا ما يكوّنها كما نعتقد.

 

ما أعنيه هنا أن النمو العقلي لأبنائنا هو امتداد حتمي لنموهم الجسدي، وكما تحتاج أجسادهم للغذاء الصحي والهواء الجيد، تحتاج أرواحهم للبيئة الغنية التي تسمح للطفل باكتشاف قدراته وإظهار دلائل شخصيته الفريدة وتنمي لديه مهارات الاكتشاف والإبداع والابتكار.

 

قبل أن تأتي “صوفي” ابنتي إلى العالم كنت أرى وأعتقد في تربية الاطفال بإملاء الأوامر، كونهم وعاء ما علينا سوى ملئه بما نريد، فيصبح كما نريد نحن.

وفي حضورها الحي، تساقط عني الكثير من التعالي على الأطفال، بحجة أنني اختبرت الدنيا وامتلكت قدرًا أكبر من المعرفة.

 

كون “صوفي” من ذوي متلازمة داون جعلني ألاحظ وأراقب باهتمام أكبر مهاراتها وحركاتها وقدراتها على التعلم.

وما أدهشني، معالجة صوفي لما نعرضه لها من بيئة وتجارب وألعاب وأشخاص. فالأمر بالنسبة إليها انتقائي جدًا، فيه من ذوقها وحكمها وشخصيتها الخاصة.

 

دهشتي بتمييزها وتميَزها جعلتني أدرك مفهومًا جديدًا للتربية:

إن ما يفجر طاقات الطفل الكامنة ويجعلها حية هو قدرتنا على التربية بحب.. وعندما نحب نحرص على أن نفعل كل ما يسعد أطفالنا.

حينها لن نربي بالتعنيف والشدة، ففطرة الإنسان تحتم عليه أن يكره الاعتداء عليه، وبالتبعية يحاول مضايقة من يؤذيه، وهذا يفسر الكثير من سلوكيات العند والرفض عند الطفل حتى في أشهره الأولى.

 

التعنيف ليس فقط هو الضرب أو أصواتنا المرتفعة، بل يشمل المنع والحرمان من الاكتشاف، فطوال الوقت نلملم من أطفالنا الأكواب والمفارش وأدواتنا… إلخ، دون أن ندرك أن زهدهم في الألعاب البلاستيكية ورغبتهم في أشيائنا هو علامة على رغبتهم في حياة حقيقية.

 

ما اختبرته مع طفلتي وتقول به عالمة التربية د. ماريا منتسوري: هو أن توفير بيئة غنية بالحياة (كأن نتعرف على الخضراوات بأنفسنا، نشمها، نلمسها، نراها، ونتذوقها) وأن نستغل كل تفصيلة في بيئتنا للعب والاستمتاع والتعلم (كالأقمشة، قطط الشارع، روائح التوابل، أصوات العصافير، الرمل، العجين) يفتح للطفل الأبواب المغلقة في نفسه، يجعله أقدر على التعبير بغير قيد.. يشجعه على الإقدام ويساعده على النمو الحقيقي، مجنبًا إياه احتمالات التعقد والكبت. ويعطينا الفرصة ككبار أن نشارك أطفالنا حيواتهم الرائعة دون أن نرتبك ونحتار في فهم أسرارهم الطفولية، أو نعذب أنفسنا ونعذبهم بالحكم عليهم بالصورة الجامدة الخانقة التي تسرق الكثير من طفولتهم.

 

في النهاية..

“الذي تعوّد أن يرى فقط هو الذي يهتم.. والاهتمام هو القوة المحركة التي ستجعل لطفلك إيقاعه المميز وروحه المبهرة”.

المقالة السابقةمحمد خان.. خرج ولم يعد
المقالة القادمةأدوات المطبخ السحرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا