بدأ العام الدراسي الجديد وجاءت معه أطنان من الواجبات المنزلية، والمواد الدراسية، في بداية كل عام أعقد اتفاقًا بيني وبين نفسي بأن أكون أمًا هادئة أتعامل ببساطة مع الفروض المنزلية، وأضع نفسي مكان صغيرتي، وأحاول تذكير نفسي بسنوات الدراسة، وكم كانت المواد الدراسية مُعقّدة وثقيلة. وكما يحدث في كل عام أنسى الاتفاق الذي عقدته بيني وبين نفسي مع أول عشر دقائق أبدأ فيها بالمذاكرة لها، وتبدأ شخصية الساحرة الشريرة في الظهور، ونبرة صوتي تبدأ في الارتفاع مع كل مرة أعيد شرح نفس الشيء من جديد، مع تصميم من ابنتي على عدم الفهم.
أوقات أبدأ في إلقاء الكتب والولولة (على المجهود والفلوس اللي بتدفع كل سنة) مع وصلة من التبكيت المستمر للفتاة. كنت أظن أن ابنتي اعتادت رد فعلي وولولتي، لكن في المرة الأخيرة وجدتها تبكي بحرارة وهي تردد “أنا مش فاهمة أعمل إيه يعني؟” سألتها “مفهمتيش في المدرسة ولا من المستر ولا مني؟” وكانت إجابتها مقتضبة جدًا “مفهمتش”.
كان الدرس هو الفارق بين المضارع المستمر والمضارع البسيط في اللغة الإنجليزية، مع ملاحظة أنه درس يخص المستوى الرفيع وليس مادة اللغة الإنجليزية الحكومية، أي أنه لا يضاف إلى المجموع ولا يؤثر في درجاتها الدراسية من الأساس.
فكرت أني بالفعل احتجت أن أراجع كتاب القواعد الخاصة باللغة الإنجليزية أكثر من مرة لأفهم الفارق بين المضارع المستمر والمضارع البسيط جيدًا وأتمكن من إعادة شرحه لها، وأنني في أيام الدراسة لم أكن أُرهق نفسي بمذاكرة “الجرامر” وكنت أتنازل عن طيب خاطر عن الدرجات الستة للـ”جرامر” في مقابل ترييح دماغي.
ابنتي لم تختَر أو تطلب أن نضعها في مدرسة نظن نحن أنها ستفيدها مستقبلاً نظرًا لدراسة اللغات، نحن من قررنا ذلك، وهي بالفعل تحاول أن تفهم، ويبدو أن الأمر أصعب من إدراكها، أو أن وسائل الشرح خاطئة، فكرت أن ما نظن أننا نفعله لصالحها يجعلنا نضرها ضررًا بالغًا، وتفاقم شعوري بالذنب وأنا أرى المجهود الذي تحاول بذله وعجزها المستمر عن الفهم.
نحن نفعل كل شيء لنجعل أبناءنا أفضل، نفعل كل شيء من وجهة نظرنا الشخصية دون أن نستشيرهم، هي بالفعل لا ترهقني في مذاكرة المواد الأخرى ولا ترهقني حتى في مذاكرة باقي مشتملات اللغة الإنجليزية فقط “الجرامر” هو الأزمة الرئيسية، بالتأكيد هي لا تتصنع عدم الفهم ولا تحب شكلي في ثوب الساحرة الشريرة، لكنها ببساطة عاجزة عن الفهم فعلاً.
وكأن هذه الاحتمالية كانت غائبة عني تمامًا، وعندما بدأت أفكر من جديد من وجهة نظر مختلفة تعاطفت معها ووجدت نفسي فجأة أتحدث معها بهدوء، ووعدتها أنني سأطلب من المدرس إعادة شرح الدرس لها بطريقة أبسط من جديد. ابنتي كانت تبدو بالفعل حزينة ونظرتها تائهة، وعندما أخبرتها بتلك الكلمات البسيطة ابتسمت ابتسامة كبيرة جدًا، يبدو أن الأمر كان يؤرقها بالفعل وأن اتهامي لها بعدم المبالاة غير صحيح، المشكلة كانت بالفعل تضايقها ولا تجد حلاً لها حتى مع تعدد مرات شرح الدرس.
لدقائق وضعت نفسي مكان هذه الصغيرة التي تنهض في السادسة صباحًا لتحمل حقيبة ثقيلة جدًا، وتقضي ما يقرب من عشر ساعات في المدرسة بين شرح وحصص وصعود وهبوط، لتعود ويكون مطلوبًا منها أداء الواجب المدرسي الذي كان بالصدفة في هذا اليوم: حفظ 20 آية من سورة النبأ، كتابة درس العربي مرتين مع جداول معاني الكلمات وحفظ النشيد، حل من صفحة 19 لصفحة 22 في “الماث”، مراجعة قواعد اللغة الإنجليزية عمومًا (عشان بكرة فيexercise )”.
ما كل هذا؟ ومن أين تأتي هي بالوقت والمجهود لكل هذا الكمّ من الواجبات؟ ولماذا لا ينسق المدرسون معًا بحيث لا يكون هناك اختبارات أو حفظ وتسميع لأكثر من مادة معًا؟ وكيف لساعات محددة أن تفعل فيها كل هذا وهي المرهقة أصلاً طوال اليوم. أعرف أن كل الأطفال هكذا وكل المدرسين يفعلون ذلك، لكن بالفعل الأطفال في حاجة لبعض التعاطف.. الكثير من التعاطف، في وقت سابق كنت سألاحقها بالكلام “يلا يلا خلصي الدين عشان نذاكر العربي خلصي الماث عشان نذاكر الإنجلش” لكنني بعد إعادة التفكير أخبرتها أنني سأساعدها لتفعل ما تقدر عليه من الواجبات، وإذا لم تقدر على إنجاز الباقي سأذهب لمدرستها وأشرح الأمر للمدرسين بحيث لا تُعاقب.
أخيرًا رأيت ابتسامة على وجهها وسعادة صغيرة في عينها، أنا والمدرسة نفعل كل ما في وسعنا لنجعل حياتها أكثر تعقيدًا ونكدًا، بالتأكيد ليس هذا الشعور الذي أرغب أن تشعر به ابنتي ولا أظن أن حياتها هكذا ستكون أفضل. في هذا اليوم كتبت درس العربي وأنجزت نصف واجب الماث وحفظت سبع آيات من العشرين آية وراجعنا سريعًا قواعد اللغة الإنجليزبة، ثم فوجئنا بالساعة تشير إلى الثانية عشر. أغلقت أنا الكراسات والكتب وقامت هي لتجهز جدولها لليوم الثاني، وهي تشعر أنها لم تفعل ما عليها تمامًا، أخبرتها أن لا تقلق، لو حدث أي عقاب لها سأتحدث مع المدرسة، لم تكن مقتنعة تمامًا لكنها كانت مرهقة وترغب في النوم.
في اليوم التالي عرفت منها أن كل من سألتهم معلمة التربية الإسلامية لم يحفظوا الآيات كاملة، ومعلمة الرياضيات لم تفعل أكثر من وضع علامة استفهام حمراء على الصفحات التي لم تنجز، أما معلمة اللغة الإنجليزية لم تحضر من الأساس. في الحقيقة لا تهمني الفروض المنزلية أو المذاكرة بالقدر الذي تهمني به راحة ابنتي النفسية، وعلاقتها التي تطورت معي، بعد تغيير طريقتي أصبحت أراها تبتسم وتخبرني أنها تحبني هكذا بدون سبب، أصبحت تثق فيّ أكثر، والأعجب أنها أصبحت أكثر إنجازًا دون ملاحقاتي الدائمة.. آه والله!
في بداية كل عام أقرر أن أكون أمًا هادئة