هديل عبد السلام
العالم يُطبِقُ فوق أنفاسي، الحياة تفقدُ جدواها شيئًا فشيئًا، الأشباح تُحيطني من كل اتجاه، هذا الكائن الصغير الذي بينَ يدي لا يعرفُ من العالم شيئًا غيري، وأنا لا أعرف شيئًا من العالم الآن كي أحيطُه علمًا وحبًا وحماية، قلبي منتفخٌ ومثخنٌ ويكادُ ينفجر في وجه كل من أعرفهم. الكثيرُ من السوادِ يفتِكُ بمشاعري المنهكة. أنا وحيدة، وحيدة جدًا، وخائفة للغاية، كل شعرةٍ في جسدي ترتعش، كُل خليّة وكل عصبٍ ينبض رُعْبًا. تعبٌ تعب.
يمكن إرجاع معظم أسباب تفاقم المشكلات النفسية في مجتمعاتنا إلى قلة الوعي الجمعي بالمشكلة، وعي المريض نفسه ووعي المحيطين به. قلّة الوعي بالمشكلة يؤخر إدراك وجودها والاعتراف بها كتمهيدٍ لإيجاد الحلول وبداية المواجهة.
الحمل والولادة عملية شاقّة، ليست سهلة، ليست حدثًا عاديًا، ولا يمكن الاستهانة بتأثيرها النفسي والجسدي على الأم، لمجرد أن “ما كل الستات بتولد”، أو “إنتي مش أول ولا آخر واحدة تخلّف”.
بعد كل هذا التعب، والحمل الثقيل، وآلام المخاض والولادة، والنزف والوجع، لا تأتي الراحة، فالآن صار بين يدي هذه المُتعَبة، خائرة القوى، كائنٌ صغير الحجم، شديد الضعف وقليل الحيلة ولا يملك من أمره شيئًا، لا زال يفتح عينيه على الدنيا ولا يعرف منها سوى رائحة أمه ولبن ثديها، ولا يملك من طرق التعبير سوى البكاء والأنين، ويحتاجُ إلى المزيد من تعب الجسد، وسهر العين والعقل، والتيقّظ الدائم، والكثير من المحبّة والدفء.
كل هذا يكون مصحوبًا عند أمه بأعراض انسحاب النوم، واضطراب الهرمونات، وتوقّعات المحيطين بأن تتحوَّل هذه الأم المتعبة إلى سوبر ماما الآن وحالاً، تُرضِعه ليل نهار، وتهتم بشؤونه وشؤون بيتها وأسرتها، وكل ذلك بفيضٍ من الحب والرضا، وفِي كثيرٍ من المجتمعات، تفتقر هذه السوبر ماما للدعم الواجب من المحيطين، لتصير وسط كل هذا التعب وحدها تمامًا.
هذا الانسحاب للدعم مع التوقعات العالية من الأم، تسبّب في إخراس أنين أجيالٍ من الأمهات التي عانت من هذا المرض في صمت، خوفًا من أسواط المجتمع التي لن ترحمها. وفضّلت الأمهات أن تخفي معاناتها لتواجه وحدها الحزن، وتأنيب الضمير، وإحساس الذنب الذي ينخُرُ أرواحهم، والرغبة العارمة في الاختفاء من العالم.
بالنظر إلى كل هذه العوامل، ليس غريبًا أن تكون نسبة الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة هي ٦٠٪ من الأمهات الجديدات.
تتدرّج نسب الإصابة ما بين الاكتئاب الخفيف أو ما يسمى بالـBaby Blues، وحالات القلق الاضطرابي، وموجات البكاء، وصولاً إلى مراحل أكثر عنفًا وشدّة فيما يسمى بالـpost-partum depression.
أعراض اكتئاب ما بعد الولادة تبدو كألواحٍ زجاجية غير مرئيّة، تشعر بها الأم وحدها، لا يراها غيرها، تبدو وكأنها تحبس نفسها بنفسها داخل هذا الصندوق الزجاجي، لكن الحقيقة أن هذه الألواح موجودة حقًّا وإن كانت غير مرئيّة.
وللتعرّف على هذا الألواح ومحاولة لمسها ورسم خريطة لها، لجأتُ إلى الأمهات ذاتهن، الناجيات من تلك الحفرة، وحدهن يعرفن ملامحها، وحدهن لمسن برودة الألواح، ووحدهن قادرات على إزالة الغموض عنها. مما يمكن أن يساعد أمهات أخريات يعانين في صمت، لفهم ما يحدث لهن. ولتوعية الأزواج والمحيطين بالأم الحامل بما يمكن أن يحدث لها.
أولاً: شعورٌ خانقٌ بالعزلة والوحدة، وانفصالٌ عن العالم بكل ما فيه، وحتى عن الطفل المولود.
– آية، ٢٧ سنة، أم لطفل: كنت بحس إني في صحرا لوحدي واللي حواليا موجودين جنبي بس ولا شايفاهم ولا هم حاسين بيَّ، كنت بشوف كل حاجة إزاي ممكن تبقى وسيلة انتحار.
– إسراء، ٢٧ سنة، أم لطفل: كنت بحس بخنقة ووحدة وإن الدنيا بقت سجن عمري ما هطلع منه، وكنت بخاف على بنتي مني وإني اتسرّعت إني جيبتها للدنيا.
ثانيًا: إحساسٌ بالضعف والعجز وقلة الطاقة وخوار القوى.
– يمنى، ٢٧ سنة، أم لطفل: كنت بحس إني ضعيفة، ضعيفة قوي، أول مرة أحس بالعجز بالشكل ده في حياتي، ومحدش كان فاهمني.
– سارة، ٢٨ سنة، أم لطفل: كنت بحس بوحدة وضعف غريب، وإن عمري ما هبقى سعيدة تاني أبدًا.
ثالثًا: إحساس بالإحباط واليأس، قد يصل إلى مرحلة الرغبة في الموت.
– ضحى، ٢٥ سنة، أم لطفلة: كنت بحس إني مدفونة في صحرا وإن الرملة بتحرقني وتحرق مشاعري، إن حياتي كلها انتهت.
رابعًا: شعورٌ عام بالخوف والترقّب والقلق المستمر وتخيّل سيناريوهات سيئة لكل الأمور.
– أمنية، ٢٦ سنة، أم لطفل: دايمًا بحس إني خايفة من الموت، وإني هموت قريب وهسيب الكائن الضعيف ده لوحده في الدنيا دي.
خامسًا: إحساسٌ بالضياع والفشل.
– دينا، ٢٨ سنة، أم لطفلة: كنت بحس إن حياتي كلها دمار وفشل، زي اللي كان في حرب واتهزم وخلاص مفيش أمل، وبيته اتحوّل لخراب، وإني فاشلة في كل حاجة في الدنيا، وأحيانًا كنت بحس إني بتخنق ومش عارفة أتنفّس.
– سهر، ٢٨ سنة، أم لطفلة: طول الوقت كنت بحس إني ميتة وفاشلة، فاشلة في كل حاجة، فاشلة كأم وكزوجة، وإني جنيت على بنتي بكوني أمها.
تلك بعض الملامح التي يمكن أن ترسم صورة لحالة الأم المكتئبة، على لسان أمهات حقيقيات مَررن بدرجات مختلفة من هذه الحفرة.
رغم الاعتراف طبيًا بالمرض، لا زالت الأمهات لا تخبر عن حقيقة إحساسها كاملاً، لأنها لم تَعُد تعرف حقًّا هل الإفصاح عن مشاعرها سيحسّن من وضعها أم سيزيده سوءًا، وفِي الواقع لها كل الحق في هذه الحيرة، فحتى إن كان الرأي الطبي قد اعترف بالمرض، فالرأي المجتمعي لا زال على مسافةٍ بعيدة من الوعي بمخاطر هذا النوع من الاكتئاب، كما أنّ الأمهات الجديدات يكُنَّ عُرضة للكثير من الانتقاد، والأحكام المسبقة والتوجيه، في مرحلةٍ هن في غنى فيها عن هذا الكم من الطاقة السلبية التي تزيد من أزماتهن النفسية.
لذا.. على الأطباء المعنيين بالصحة الجسدية أو النفسية للأمهات الجديدات، أن يولوا هذا المرض المزيد من الاهتمام والتوعية، فهو لا يقِل في خطورته عن أيٍّ من مضاعفات ما بعد الولادة.
وللأمهات الجديدات.. أنتِ على حق، إن شعرتِ أن شيئًا ما خطأ، أن إحساسك ومشاعرك ليسا كما يجب أن يكونا، فأنتِ على الأغلب محقّة، لا تتردّدي في الإفصاح عن مشاعرك، في طلب الدعم سواء من الزوج والأسرة أو من طبيبٍ مختص.
إن لم تجدي الدعم المرجو، أخبري شخصًا آخر ولا تتوقّفي حتى تجدي شخصًا يفهم حالتك ويهتم بها ويساعدك على تجاوزها والوصول بسفينتك بسلام وبأقل خسائر.
وللزوج والأسرة المحيطة بالأم الجديدة أو الحامل.. هي قطعًا تحتاج للدعم وإن لم تطلب ذلك، التغيّرات النفسية التي تصيب الأم تأخذ صورًا مختلفة، بعضهن يصرخن طلبًا للعون، وأخرياتٍ يتقوقعن في بئر الصمت، لكن في كل الأحوال هي تحتاج للدعم والمساندة، النفسية والمادية، تحتاجُ للمشاركة، للاهتمام بها وبصحتها الجسدية والنفسية، بنومها وبتغذيتها، لمساعدتها على تخطّي تلك الفترة بأقل الضرر الممكن.
إنتي مش أول ولا آخر واحدة تخلّف