اغتسل من ذكرياتك.. إن استطعت

1408

“كلنا مصابون بالحنين..
والحنين هو دعوة للسهر مع الوحيد، وذريعة العجز عن المساواة مع ركاب قطار يعرفون عناوينهم جيدًا، هو زائر المساء حين تبحث عن آثارك فيما حولك ولا تجدها، حين يحط على الشرفة دوري يبدو لك رسالة من بلد لم تحبه وأنت فيه، كما تحبه الآن وهو فيه”.

كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش وهو يصف الحنين، هي الأقرب لنفسي الآن وأنا أصف لكم الذكريات، تلك الأحاديث الكثيرة التي لا تنساها الذاكرة عن غير قصد وترتبط بالروح أينما ذهبت، تلك الحالة التي تجعلني للحظة ألوم عقلي عن عدم تسجيله كل تلك الكلمات التي شغفت روحي في أوراق خوفًا من اختفائها يومًا ما، الحنين المرتبط بالذكريات ورنة الصوت المميز، والتفاصيل الذاهبة دون رجعة، كل تلك الابتسامات والمشاحنات التي تذكرنا بما ذهب، ما ستقرأه لم يكن تجربة شخصية لي، هي فقط مجرد احتمالات واردة لمن مر بحالات موجعة لذكرى ما، أنا مثلك أحاولها.

(1)

الذكريات قد تجعلك للحظة تسير في الشارع لمسافات طويلة، كما لو أنك لا تعرف مكانًا بعينه تذهب إليه، السير حتى التعب وسماع صوت روحك وهي تخبرك بأبيات درويش أيضًا “ذهب الذين تحبهم ذهبوا، أخذوا المكان وهاجروا”.

ليس من الضروري أن تصبح الذكريات التعيسة تعيسة من البداية، فقد تكون ذكريات جميلة حاملة معها الكثير من الفرح، ولكن غياب من اقتسمها معك تحولها إلى ذكرى تعيسة يجب عليك التعامل معها، نعم، فأنت لم تُخلق لتأمُّل الماضي، ولأنك تعلم ذلك جيدًا فأنت تحاول حقًا الخروج من الدائرة إلى خلق جديد يربطك كحجر لا يقترب من باب الذكريات.

(2)

اعلم أن الحديث عن الماضي خلف ظهرك هو مجرد مفردات نرددها على أذن الآخرين، وأنه ليس بالسهل إطلاقًا، فروحك رغمًا عنك تحتفظ والذاكرة عقاب كبير، ولكن يبقى الكثير لتفعله، ابحث عما يريحك أولاً، وإن كان غريبًا، تذكر تلك الكلمات التي تعوّل على الوقت، في النهاية كل شيء سيصبح على ما يرام مهما غابت عنا تلك الفكرة، لا تنسَها، تذكر ذلك الطقس الذي يقوم به البوذيون حين يجلس الرهبان على الأرض ويرسمون ويلونون لوحة من أجمل ما يكون وفي النهاية بعدما تصبح عظيمة يقومون بتقطيعها ولا يبقون عليها شيئًا من أجل درس وحيد “كُلُّ شَيءٍ فَانٍ”.

(3)

“حاسب من الأحزان وحاسب لها.. حاسب على رقابيك من حبلها
راح تنتهي ولا بد راح تنتهي.. مش انتهت أحزان من قبلها”

ردد مع صلاح جاهين أبياته وإن لم تصدقه بعد، شاهد ذلك المشهد العظيم من مسلسل “الخواجة عبد القادر” وهو يُحدِّث شيخه السوداني واكتب الحوار في ورقة وعلقها أمام عينيك:

– تعرف كنز يا هربرت!
– شنو كنز شيخ؟
– كنز يا سيدي هو لحظات العمر اللي باقي.
– إنت يقول كلام زي حلم.

– ومنو قالك إنه ما حلم؟
– عشان إحنا في حقيقة.
– ومنو قالك إن إحنا في حقيقة؟
– شنو رأيك في بنت شابة جميلة يتعلق قلبها بهيربرت اليائس المريض وعايزة تقابلك؟ ترفض اللقاء، ولا ما تحرجها؟
– ما بنت شيخ!
– أجمل بنت.. وفي ساعة اللقاء.
– كيف تعرف إن عيونها جميلة؟
– ومن وين تعرف إن صوتها رقيق؟
– بذكرياتك الأليمة.. ولا بعيونك وآذانك.
– بعيونك وآذانك شيخ.
– اللي جواه وجع ما بيقدر يشوف الجمال.
– وإذا كانت بتحبك.. كيف تعرف إنها تحبك؟
– القلب الحزين ما بيستطعم طعم الحب يا هيربرت.
– وهيربرت قلبه حزين.. وين أنا يوديه شيخ؟
–  تاجي نرمي هيربرت الحزين في البير ونغرقه، ونستقبل هيربرت الحي.
– كيف شيخ؟
– الوضوء يا هيربرت.
– شنو وضوء دي؟
– اغتسل من ذكرياتك يا هيربرت. الوضوء يا هيربرت يمسح الماضي. يخليك تستعد للقاء المطلق، حيث لا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل، يتلاشي الأين والبين.

فكرة الحوار السابق تتحدث عن ألم من الذكريات، فالخواجة عبد القادر مر برحيل مؤلم لأخيه في البداية جعلته يكره الحياة، ويوشك على الانتحار، ثم تمر الأيام ويجد نفسه في بلد جديد بتفاصيل جديدة، لأن الأصل في فعل الحياة العطاء والأخذ لا أحد يخرج خارج كادر الذكريات، وهنا يمنحنا تعبير “نغتسل من ذكرياتك” الكثير من التأمل والوعي، ليس من الضروري أن يكون الإحلال يحمل نفس الحالة التي تحاول نسيانها، إنما هو اغتسال يحتمل القبول، الرضا بما انتهى، اغتسالك من ذكرياتك هنا لا يحمل ضرورة نسيانها، أو إحلالها بآخرين، قد يحمل استرجاعها بابتسامة.

اقرئي أيضًا: لغز حنية القلب التي تلين كل صعب

(4)

النوستالجيا هي المصطلح الأقرب إلى حالة الذكريات، الواصفة للحنين إلى الماضي، وعلى الأغلب أن طبيعة العالم الحنين لما مر وعبر وإن كان مؤلمًا، الكلمة التي تعود إلى أصل يوناني، تشير إلى معاناة، إذًا نحن أمام رابط جديد في المعادلة الذكريات تأخذنا إلى المعاناة وعدم التمكن من العودة إلى المشهد للأبد. علم النفس يصف أحيانًا الحالة بأنها مرض، خصوصًا أنه لا فائدة من التذكر ما دام لن يمكننا العودة.

من يعاني من الذكريات التي ذهبت ولم تعد، أعلم جيدًا أنه يحاول الخروج، أو على الأقل لا يريد أن يبقى في مكانه، هو فقط يحتاج إلى وقت وبعض التشجيع. أتذكر صديقتي التي منحتني الكثير حين قالت لي: “اعملي إحلال للذكرى حتى لو مع بنتك، اقسمي الذكرى معاها بفرحة”، “لن نجد الشمس في غرف مغلقة” كما قال غسان كنفاني في إحدى كتاباته.

المقالة السابقةالناجيات من التَّعب
المقالة القادمةلست مثالية.. ولن أكون
نسمة تليمة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا