سارة الخشاب
خجولة.. غير واثقة من نفسي.. أختبئ وراء الأوراق.. أشعر بالنقص عن أي بنت في العالم.. خائفة دومًا من عدم حب الناس لي.. أتعامل مع الجنس الآخر كأنهم لن يرونني أنثى أبدًا.. أشعر دائمًا عندما أكون في مكان مع مجموعة من البشر أنني أقلهم.
نعم.. هذه حقائق داخلية جدًا في نفسي.. حقائق خلّفها وابل التعليقات والمقارنات بيني وبين الآخرين فيما يخص شكلي، منذ أن كنت صغيرة.. خطئي أن أمي أجمل مني بكثير (لا أعرف حقيقةً ما خطئي تحديدًا في هذا!).
تعليقاتهم كانت:
شكل أبوها، مفيهاش حاجة من أمها.
مناخيرك كبيرة.
سمرا.
سنانك طالعة لبرة.
عينيك ضيقة.. حواجبك تخينة.
شفايفك مقلوبة.
لبسك مبهدل.. ألوانك وحشة.
معصعصة (عندما كنت نحيفة)، هتطلع تخينة زي عماتها (عندما بدأت أمتلئ قليلًا).
كل هذا خلّف في نفسي ما كتبته في المقدمة.. والآن ها أنا أنفق من دمي وأعصابي ووقتي وجهدي الطائل والكثير كي أتخلص من القاذورات التي وضعت رغمًا عن أنفي في سلة نفسي، أنفقت الكثير والكثير معنويًا وماديًا كي أفعل هذا، تحملت الكثير جدًا من الآلام جرّاء جهل حب المظهر والحكم على الإنسان الصغير المقبل على هذه الغرفة الموحشة المسماة العالم بأن فيه كل العيوب الخلقية التي لا يد له فيها.. وكأن الناس يتعمدون أن يقولوا لهذا البريء الآتي: “انتبه أيها الجديد.. إنه عالم قاسٍ.. يفضّل أن تتركه سريعًا لأنه لن يتقبلك أحد هنا طالما لم تعرف انتقاء البضاعة الجيدة من منخار وأعين ولون بشرة وجمال شعر من عند من خلقك.. حاول أن تذهب له سريعًا كي تغير ما أعطاك”.
اقرئي أيضًا: سر جمال البشرة السمراء
ربما كان كلامي قاسيًا، ولكن هذا ما نفعله بأنفس أطفالنا بالضبط ودون مبالغة عندما نستهزئ بشكلهم، وربما أحيانًا نعطيهم فكرة -دون أن نقصد- عن أن الله لم يحبهم فأعطاهم أشكالًا غير جيدة، فيتفاقم الموضوع أكثر وأكثر في أنفسهم ليبدأ في المس بعلاقتهم بربهم الخلاق العظيم وصورته لديهم.
نعم أطفالنا يولدون ضعافًا، منتظرين من الكبار الأقوياء أن يقولوا لهم من هم؟! ويكوّنون صورتهم الداخلية الأولى التي غالبًا ما تبقى معهم طوال العمر ويصعب جدًا تغييرها فيما بعد، يكونونها من أقوال الكبار من حولهم، وخصوصًا الأب والأم والإخوة، فإذا بدأنا في الاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم، وخصوصًا في شكلهم الخارجي ومدى تقبل الناس لهم للوهلة الأولى، لأن بلا شك الناس للوهلة الأولى ترى شكل الشخص وليس شخصيته، ولن نستطيع تناسي هذه الحقيقة مهما حاولنا.
إذا أعطينا أولادنا صورة كيف يراهم الناس للوهلة الأولى بشكل سلبي، فسيتصرفون بناءً على هذا، والحديث التالي هو ما سيدور داخلهم: “يفضل لي أن أكون في الخلفية حتى لا يراني الناس بهذا الوجه/ الجسم القميء”.
“يفضل ألا أتحدث أمام الناس حتى لا يلاحظني أحد ويبدأ في الهمس في أذن زميله عن أنفي الكبير”.
“غريب.. زميلي هذا يريد أن يتعرف عليّ.. أكيد يجاملني لسبب ما ولا يحبني في الحقيقة لأن شكلي لا ينم عن جمالي الداخلي فلماذا يريد أن يكلمني يا ترى؟!”.
“هل يعقل أن يكون هذا الشاب الفتّان معجبًا بي؟! بي أنا؟! كيف؟! من المؤكد أنه يستهزئ بي، ربما يراهن أصدقاءه أن يوقعني في حبه وهم يضحكون الآن من خلفي”.
و… و… و… الكثير جدًا من الشعور بالنقص والدونية تؤدي إلى تشوّه علاقات أولادنا وصورتهم الذاتية عن أنفسهم وضياع الفرص في حياتهم وحرمانهم من جمال الطلّة، طلتهم على الناس الواثقة البشوشة مهما كان شكل الفم الضاحك، المهم أنه يضحك، من أجل ماذا؟! من أجل جهلنا بواقع الإنسان الذي يتكوّن من جسد وروح وقلب وعقل، من أجل اختزالنا لطفلنا -هذه الهدية المهداة من الله- لمجرد لوحة مرسومة، وهل رسمها الرسام بالصورة التي نريد أم بصورة أخرى لم نحبها كثيرًا؟
أيها الناظرين فقط إلى الجمال، فلنتحدث عن الجمال المجرد، لن أتحدث عن الجملة التي يقولها الناس لي دومًا “الجمال جمال الروح”، وطبعًا يقولونها باستهزاء أيضًا، لن أتحدث عنها بل سأتحدث عن الجمال الشكلي، حتى الجمال الشكلي فقط ليس كما تحسبونه.
عندما سافرت إلى تركيا ظننت أنني سأشعر بالدونية أكثر هناك، ذلك أنها من بلاد الجمال كما يقولون، ولكن ويا للمفاجأة! كانت المرة الأولى التي أشعر فيها أنني إنسانة في مستوى الجميع، لأنني وجدت ورأيت أنني مجرد شكل مختلف، كما أن صديقي الموريتاني “نافع” مختلف، كما أن صديقتي اللبنانية “سنا” كانت مختلفة، كما أن صديقي الكردستاني “برازان” كان مختلفًا، كما أن صديقتي السودانية “فاتن” كانت مختلفة، كنت سعيدة بكل الأشكال والألوان والألسنة المختلفة وأحببتهم جميعًا وأحبوني جميعًا دون اللجوء إلى المقارنات، لأن عندما يتجمع المختلفون تذوب المقاييس والمعايير جميعًا ويبقى معيار واحد، وهو معيار الإنسانية، الروح التي تصافحك.
صديقتي الطبيبة الشابة الجميلة في نظري والتي أحبها كثيرًا والتي ترى نفسها لا تمت إلى الجمال بصلة، استوقفتها سائحة أجنبية هنا في القاهرة ذات مرة، سائحة ممن نتمنى أن يشبهها أولادنا، وترجّت صديقتي أن تسمح لها بصورة معها لأنها أحبت بشرتها الخمرية وقالت إنها جميلة.
بنت أخي السمراء الجميلة، التي لاقت في أشهرها الأولى في الحياة هنا في مصر الكثير من “مش حلوة”، “سودا”، عاشت الطفلة في ألمانيا لمدة عام تقريبًا وكان الناس يستوقفون أمها ليعطون “جنة” الحلوى، ويلعبون قليلًا مع هذه السمراء ذات الأعين السوداء الجميلة.
الأعزاء الآباء والأمهات والأقارب، عذرًا تعليقكم على أشكال أولادكم إنما يدل على جهلكم أنتم، وانغلاقكم على معاييركم ومقاييسكم التي لا تهم من البشر أحدًا غيركم، وهي قالب من القرميد تضعون فيه النفوس البريئة المقبلة على الحياة فاتحة ذراعيها، فتغلقون ابتسامتهم المشرقة وتكبلون أيديهم وتضعون قرميدة إضافية في عقولهم الوليدة.
رفقًا.. اجعلوهم ينطلقون وحرروهم وقولوا لهم إنهم أجمل أطفال العالم لأنهم كذلك فعلًا في أعينكم، وقولوا لهم إن كل الناس جميلة إلا من اختار بيده أن يقبّح خلقة الله البريئة.
ولا تنسوا أن تحكوا لهم قصة الجميلة والوحش قبل النوم.
علاقة الأطفال بشكلهم، الجميلة والوحش، تشوّه صورة الأطفال عن أنفسهم