الأمهات ظواهر خارقة، تحدث كل يوم بشكل جعل العالم يمل من مدى انخراقها، فأصبح ينظر إليها بعادية شديدة، تميل في العديد من الأحيان إلى الملل.
الأمهات وحدهن يعلمن مدى انخراق ما يقدمنه كل يوم، وبالرغم من ذلك فالعديد منهن يرينه على أنه عادي وعلى أنه واجب، وعادة يرين أنهن لا يقدمن كل ما يأملنه.
الأمهات كائنات تتغذى على الخطط المُلغاة والأحلام المنقوصة، وتتغذى أيضًا على القبول، قبول كل ما يحدث وما لم يحدث، حتى يستطعن الاستمرار في القيام بأدوارهن اليومية ومحاولة الاستمتاع بها على قدر المستطاع.
لديهن كل يوم قائمة مهام طويلة لا تنتهي، هي بالفعل لا تنتهي، ويظل الإحساس بالذنب يحيط بقلوبهن وعقولهن، حمل زائد يضغط عليهن. ما بين أطباق تحتاج لغسيل، علبة لبن انتهت، وقت خاص لم تطُله منذ عدة أسابيع، حتى أن النوم أصبح مجرد مهمة في قائمة المهام التي تريد أن تحصل عليها لكي تشعر أنها أنجزت شيئًا ما.
تستيقظ الأمهات متعبات ربما أكثر مما كن عليه قبل النوم. ما بين طفل متشبث بصدرها للرضاعة أو جالسة لتحمل صغيرها لكي يشعر بالأمان وينام، وما بين مخها الذي يعمل لحظة استيقاظها لكي تلاحق مهامها اليومية، بداية من صباح الخير لتغيير حفاض متسخ للصغير لإعداد فطار يقبله الصغير وأن يكون مليئًا بالعناصر الغذائية.
تقف بمطبخها بينما مخها عالق ببعض الخطط الشخصية والعائلية التي لا تحقق ربعها عادة، فيتنامى شعورها بالذنب وينمو يومًا بعد يوم، حتى تشعر يومًا ما أن هذا الشعور يلتهم روحها.
تصرخ بعض الأمهات من وقت لآخر معترضة على كل الخطط الملغاة والخطوات المتوقفة. لا أحد يفهم صراخها غيرها، حتى إذا أظهر أحدهم تعاطفه أو تفهمه فينهي حديثه بجملة “الأمومة مش سهلة بس مستاهلة”.
كلما سمعتها، أتذكر حينها الآنسة “أشجان” في مشهدها الشهير بالفيلم السينمائي “لا تراجع ولا استسلام” حين سألها الضابط “سراج” قائلاً: “بس كده؟!” لترد هي: “أومال إنت فاكر إيه؟!”.
الأمهات تختبر الفشل يوميًا مهما بَدَوْنَ ناجحات. فهذه أكلة لم تنل الاستحسان من صغارها، هذا فنجان قهوة بارد تم تسخينه ثلاث مرات قبل أن يكون مصيره السكب في حوض المطبخ أو على سجادة غرفة المعيشة بعد إصرار الصغار على الجري حوله أو تجربة لمسه.
والحقيقة أن الصغار مساكين، لا يلقون بالاً إلا للالتصاق بأمهاتهم. الأمهات اللاتي قد يشعرن بأنهن مساكين أكثر منهم وأنهن في حاجة ماسة أكثر منهم لضمة هذا الصغير واحتضانه.
الأمومة صعبة، والعديد من أيامها لا يصفها شيء غير الصعوبة، بعضها جافة جدًا وقاسية على الأم، لا تمر إلا بالتقبُّل. فمع الأمومة تأتي الصعوبة بكل أشكالها وألوانها. ومهما بدت الأمهات واثقات من قواهن الخارقة، فهن في اختبار دائم.
تُظهر بعض الأمهات على المواقع الاجتماعية أنفسهن بشكل أن الأمومة لم تقف في وجههن لفعل أي شيء وأنها لم ولن تؤثر على شخصياتهن وحياتهن. وأنا أشاهدهن وأضحك على كل هذا الهذيان الذي يصدرنه لجيل جديد من الأمهات.
الأمومة تنبت شخصًا آخر بداخل الأم، يولد مع ميلاد طفلها ويتطور ويتغير وينمو مع نمو طفلها. تحرص الأيام الصعبة على تربية هذا الشخص الجديد كما تحرص هي على تربية صغيرها. فالأمومة مهمة هامة وشاقة حقًا. إذا لم تؤثر على الأم فالحقيقة لا أعرف ما الذي يمكن أن يؤثر عليها.
نُكثِر الدعوات كل يوم بألا تتأثر الأم، ويحاصرنها بالعديد من الرغبات المقدمة على أطباق مختلفة يدعونها لتجربته، ما بين لكي تكوني أمًا جميلة، اطبخي أشهى وأحدث الوصفات، العبي أحدث التمارين واشتري أحدث المكملات الغذائية لكي تصبحي في رشاقة الفنانة المعروفة التي خسرت عشرين كيلو من وزنها في شهر فقط بعد الولادة، تعلمي لغة جديدة، ها؟ ما رأيك في التعليم المنزلي حتى لا يسيطر أي أحد على تفكير أطفالك؟، وما رأيك بتطوير مجالك الوظيفي مع ذلك كله؟! كوني أمًا مثالية وجربي ذلك كله وتطوري.. كوني أمًا ناجحة.. كوني أمًا خارقة.. كوني أمًا متطورة… إلخ.
لقد سئمت ذلك كله. ولا أريد أن أكون أمًا خارقة أو أمًا ناجحة، أنا أجتهد لكي أكون أمًا. فلقب أم يحمل كل المعاني، أم جديرة بصغاري.
أم يحب أن ينظر صغارها لها بابتسامة كلما رأوها، مهما كان عمرهم ومهما كانت همومهم ومهما كانت مشاغلهم.. يلقون أنفسهم في أحضانها مثلما كانت أول لحظة لهم في دنياهم.