كيف تلتئم: محاولة إيمان مرسال لمواجهة أشباح الأمومة

1888

بقلم: سماح صلاح

لو كنت أكثر وعيًا وسألني أحدهم عن صورة أمي لكنت أريته هذا الطائر في الكنفاه، التي شغلتها بيديها، ليس لحضور أمي في الكنفاه دخل بالتذوق الجمالي أو ببراعتها، ولكن الوخزة التي يصيبني بها هذا الطائر، لم أمر بها أمام صورتها معي في الاستوديو. عيناه دائمًا تنظران إليَّ كأنهما عيناها، الطائر الساكن الذي اعتادت أمي أن تجلس لأجله إلى جانب النافذة من أجل إضاءة أفضل، كل غرزة إبرة جرح رمزي في تجسيده، مئات الجروح كي يكتمل”. (جزء من النص)

يمكن أن تلخص هذه السطور التي تحدثت فيها الكاتبة عن أمها جوهر الأمومة وماهية صورة الأم عمومًا، تشعر الكاتبة بحضور أمها الغائبة عندما تنظر إلى الطائر الذي لازم الأم طويلاً حتى يكتمل، ولا تشعر بذلك الحضور حين تنظر إلى صورة الأم التي تحوي ملامحها الحقيقية، نظرة عينيها وشعرها المنسدل وإطار ساعتها المعطلة، ربما لو تزامن تعطل تلك الساعة مع تعطل ساعات الكون لاستطاعت تلك الأم أن ترافق ابنتها لوقت أطول، ولم تكن لتفارق الحياة بعد شهرين من تاريخ تلك الصورة التي كانت تستعين بها الكاتبة لتذكر كل ما هو خارجها، صورة أمها الحقيقية التي وقرت في قلبها ووجدانها.

رمزية هذا الطائر ونظرته الساكنة ووخزات جسده هي ذاتها صورة الأمومة، يتطلب الأمر مئات أو ربما آلاف الوخزات والجروح في رحلة الأمومة حتى تكتمل الصورة، تبدأ تلك الرحلة بطبيعة الحال بندبة في البطن جراء شق يمثل مخرجًا لذلك الكائن الذي تكون في داخلها، الذي يبقى هناك في مخبئه حتى تحين اللحظة التي يكون الانفصال بين الذاتين حتميًا لبقائهما، العنصر المشترك الثاني بين الأم وصورة الطائر هو السكون داخل الإطار مع استحالة الخروج منه، وأخيرًا الحاجة الدائمة لكل منهما للضوء حتى يتمكن الآخرين من رؤيتهما بوضوح، يتطلب الأمر نافذة من النور في القلب والعقل حتى يتمكن المرء من رؤية الأم، أو التعرف عليها من خلال وجودها الافتراضي في كل التفاصيل.

معضلة الأمومة

في بلداننا تُقدم للأم رعاية صحية بعد الولادة لأنها تحتاج لأن ترعى وليدها، يكون الحرص على تغذيتها واجبًا لا تقصيرَ فيه حتى تقدر على إرضاعه، تهتم الجدات المصريات بأنه يجب على الأم أن تتناول دجاجة كاملة بعد الولادة، يقولون إنه يجب أن يخرج الطفل من بطن الأم وتستقر الدجاجة مكانه مباشرة، هكذا تعلمن وهكذا حرصن أن تسير الأمور مع بناتهن.

في الأسبوع الأول تجد الأم الحديثة نفسها محاطة بالأقارب والأصدقاء، ويقتضي الطقس الشعبي أن يقام حفل السبوع، وسط الشموع والغناء والتهليل ودق الهاون بالطبع، ثم يسكن كل شيء لتُترك الأم لهواجسها ولتجربتها الخاصة تعيشها بمفردها وتخوض معركتها الخاصة بلا سلاح، سوى قلبها ونصائحَ بلا حدود من ذوات الخبرة، يتعارض بعضها مع البعض الآخر وتتعارض معظمها بالضرورة مع توصيات طبيب الأطفال، تختفي التجمعات ويذهب كلٌ إلى سبيله، ولكن الهاون يبقى الصديق الوفي للأم دومًا، لا يتوقف عن الطرق في قلبها وعقلها أبدًا.

صورة الأمومة في المتن العام

هذا النص الذي قدمته إيمان مرسال جاء مفسرًا لكل ما يعتري الأمهات من تشتت وضياع في غابة من الواجبات الجديدة تمامًا، لم تتلق تدريبًا عليها كمثل ما يحدث، حتى لأي موظف في بداية عمله.

الكتاب بعنوان: كيف تلتئم عن الأمومة وأشباحها. بداية استوقفني العنوان. أعجبني وصف هواجس الأم بالأشباح، تشبيه ملائم تمامًا، فكلاهما مُخيف، وغير مرئي، ويداهم بلا مقدمات، ولا يمكن إقناع المحيطين بوجودهما لأنه ليس ثمة دليل مادي.

تحدثت الكاتبة عن صورة الأم في المتن العام، وما يجب عليها تقديمه، التوقعات المبالغة جدًا عن مثاليتها وقدرتها على الاحتمال، ولم قد يصور الجميع  أن تصبح الأم بين ليلة وضحاها ذات قدرات خارقة لا تكل ولا تشكو، لأن المجتمعات العربية على وجه الخصوص تعتبر شكوى الأم من أبنائها كفرًا بنعمة وجودهم. شاسع هو الفرق بين وَهَن الأم وما هو متوقع منها عمومًا.

تصورت وأنا أقرأ ذلك الجزء الخاص بالمتن العام أن أمهات العالم أجمع يمشين في مسيرة ضخمة، جميعهن صامتات، مطأطأة رؤوسهن، يغطي رأس كل منهن ستار يتدلى حتى أسفل الذراعين، كل من تضع طفلاً تنضم في صمت إلى تلك المسيرة، ومن تحاول أن تحيد عنها، فلا مكان لها في الصورة العامة، يعتبر الخروج عن المألوف جريمة ومن تخرج منبوذة.

“ما يشغلني هنا ليس كيف استقرت ملامح محددة للأمومة داخل المتن العام، ولكن كيف ننصت إلى ما يخرج عليه ويعارضه، كيف ندرك أن الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية، كيف يمكننا أن نراها في بعض أوجهها صراع وجود، توترًا بين ذات وأخرى، وخبرة اتصال وانفصال تتم في أكثر من عتبة مثل الولادة والفصام والموت“. (جزء من النص).

شبح الشعور بالذنب

الشعور بالذنب هو أكثر ما يوحد الأمهات، أو حتى نتحرى الدقة، هو الشعور المشترك بين الغالبية العظمى منهن، توضح الكاتبة في هذا الإطار أنه لا مهرب للأم من الشعور الدائم بالذنب، إذا ما تفانت في رعاية أولادها فإنها تشعر بالذنب تجاه ذاتها المنسية، وإذا سعت لتحقيق تلك الذات ينهشها شعور الذنب والتقصير.

تستفيض الكاتبة في الحديث عن جدتها التي تولت رعايتها بعد رحيل أمها، وكيف أنها عايشت تجربة مختلفة في الشعور بالذنب، حيث إن حزن تلك الجدة على ابنتها كان مغلفًا بشعور عميق بالذنب، تشعر أنها مذنبة لأنها عاشت بعد وفاة ابنتها، عاشت حدادًا امتد حتى آخر عمرها، مظاهر الحزن عند الجدة كانت عنيفة، شقت ثيابها ولطمت ثدييها، تعاقبهما على فطام حقيقي حدث منذ زمن وفطام افتراضي تحقق بغياب الابنة للأبد عن حضن أمها.

شكلت أمومة الجدة لحفيدتها، مرجعية لهذه الحفيدة وقد صارت أمًا بدورها، كانت تختزن تلك المرجعية في عقلها لسنوات، حتى خرجت حين سنحت الفرصة. تقول الكاتبة إننا نستمد فكرتنا عن الأمومة ممن مارسن أمومتهن علينا، بتقليدها أو معارضتها، غنت الكاتبة أناشيد العديد لابنيها وهي تودعهما سريريهما كل ليلة، وعندما صارحاها بأنها كئيبة جدًا، وطلبا منها أن تغني لهما ما يغنيه والدهما الذي يتحدث لغة غير العربية، غنت لهما نفس الأغنيات التي يحبان سماعها من أبيهما، ولكن بنفس اللحن الحزين دون قصد منها؛ ذلك أنها لم ترَ في طفولتها نموذجًا أكثر فرحًا ولم تسمع أغاني أقل كآبة.

“لقد ربت جدتي طفليّ معي، هي التي لم تعش لتراهما، حكت لهما حواديت وغنت لهما معي، تجلس بجانبي وأنا أحضن يوسف، وأنا أتمتم بالرقوة التي ستحميه، من عين الجدع اللي فيها ودع، ومن عين المرة اللي فيها شرشرة، ومن عين كل من شافك ولا صلاش على النبي، أتثاءب وتسيل الدموع من عيني بما يعني أنه محسود فعلاً، أمارس طقوسها دون أن أسأل لماذا، كأن أمومتي تتصل بها، وتوجد معها، وتنبثق منها”. (جزء من النص).

ما إن انتهيت من قراءة الكتاب الصغير حجمًا، العميق جدًا من حيث المعنى والأثر، حتى بات لديَّ يقين بأنه من بين كل تلك التحديات، يبقى التحدي الأكبر والأهم في حياة الأم هو أن تلتئم.

المقالة السابقةكيف تتعاملين مع الرجل المدلل؟
المقالة القادمةعلامات الاكتئاب وأسبابه عند الأطفال والمراهقين والنساء
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا