سوف تراه عندما تؤمن به

1334

“إنك لست مجرد إنسان لديه تجربة روحية، بل أنت كيان روحي لديه تجربة إنسانية”، الجملة السابقة قالها الكاتب “واين داير”، الكاتب والمُحاضر الأمريكي، في كتابه “سوف تراه عندما تؤمن به”. الجملة السابقة كشأن كثير من الموضوعات التي ناقشها “داير” في كتابه، تضعك أمام مُعضلات الترتيب، أيهما يأتي أولاً، تمامًا مثلما يجعلك الكتاب في كثير من مواضعه تُفكر طويلًا أي الأمور الأصل وأيها الفرع.

التجربة الإنسانية وروتين الحياة اليومي

كنت أنظر كثيرًا في فكرة روتين الحياة اليومي، وكنت أتساءل دومًا أي قوة تلك التي تلزمنا لكي نستيقظ كل يوم من فراشنا لنفعل الأمور نفسها، كل يوم نحتاج أن نأكل وجبتين أو ثلاث، كل يوم نحتاج إلى العمل، صحيح أهدافنا ودوافعنا تجاه العمل تختلف وفقًا لاختلاف فترات حياتنا وظروفنا في كل فترة، لكن بغض النظر عن هذا، أنت رُبما تفعل المهام نفسها طوال حياتك المهنية، كنت أشعر أن الانسان كأنما رُبط في ساقية لا تكف عن الدوران إلا بوصول قطار عمره إلى المحطة التي لا بد أن يُغادر فيها.

هذا التصوّر السابق، هو نفسه الذي حاول إبرازه الأديب “يوسف عز الدين عيسى” من خلال روايته “الواجهة“، يُصوّر عيسى بطل روايته بأن مهنته هي أن يظل مربوطًا في ساقية حرفيًا، ليوفر احتياجاته واحتياجات أسرته، وكلما وفر ثمن شيء يحتاجه وذهب ليحصل عليه يجد ثمنه قد تغير، ليعود ويُربط في الساقية من جديد لتوفير فارق الثمن، وهكذا، ينظر البطل حوله ليجد الحياة من حوله غير مفهومة، هناك من لديه الكثير من المال، ومن غير المنطقي أن يكون قد حصل على كل هذا المال من الربط في الساقية، ينظر البطل للمحيطين حوله أكثر يجدهم يتحركون في وضع مؤقت، فقد جسد “عيسى” فكرة الموت بـ”ذبابة” بمجرد أن تلمس أحد الأشخاص في الرواية فإنه يُغادر الحياة فورًا، في الرواية تعرف الذبابة طريقها جيدًا، ولا يستطيع أحد منعها، وفي الحياة يفعل الموت الأمر نفسه.

كيان روحي لديه تجربة إنسانية

رُبما جعلني “داير” أرى طاحونة الحياة تلك بنظرة مُختلفة، “إنك لست مجرد انسان لديه تجربة روحية، بل أنت كيان روحي لديه تجربة إنسانية”، كما الأشياء قد تختلف فقط عندما يُعاد ترتيبها، أنت لست إنساناً موحول تمامًا في ساقية الحياة ومنغمس فيها بقلبه ومشاعره وكل كيانه، ويرتاح منها قليلاً ببعض الطقوس والعبادات التي تُشكّل تجربته الروحية، اقلب الترتيب، وستجد أن صورة الحياة ومفهومها قد اختلفا تمامًا، الواقع أنك كيان روحي، لديه تجربة إنسانية، فالتجربة هنا تأتي في خدمة كيانك الروحي، لتُعززه وتُطوّره وتُنميه، إذاً كل لحظة من لحظات الدوران والربط في الساقية يُضفي على كيانك الروحي شيئًا ما، شيئًا رُبما لا تدركه مُطلقًا، لكن المؤكد أنه يحدث، يحدث مع كل لحظة في وجودنا هنا.

اقرأ أيضًا: الامتنان لله: شعور جديد يصف علاقتي بالحياة

لا شيء يحدث مُصادفة

“سوف تراه عندما تؤمن به”، أيهما يحدث أولًا؟ تتجلى يد الله بصفاته وأسمائه فتدفعك للإيمان؟ أم أنك تؤمن فتتجلى أمامك يد الله وقدرته؟ رُبما الوضع الأول هو الأكثر منطقية، لكن الحقيقة أن “داير” يرى العكس، أنك لن تراه إلا عندما تؤمن به، وهذا صحيح لأبعد مدى، تأمل معي هذه الصورة، إذا وضعت يدك على عينيك، ماذا سترى غير الظلام؟ هكذا فكرة الإيمان إذا لم تكن لديك، فقد لا ترى تفسيرًا لأي شيء يحدث حولك من الأساس، رُبما ترى كل أحداث حياتك هي مُجرد صدمات لا مُتناهية، تأتي على رأسك من حيث لا تدري ولا تحتسب، رُبما عزوت الأسباب للصدفة، رُبما لظلم الحياة وسوء البشر وقسوتهم، كلها أسباب تجعل الحياة أكثر صعوبة وقسوة.

متى إذًا تتجلى أمام ناظريك يد الله وقدرته؟ يحدث هذا عندما تؤمن، الإيمان يجعلك ترى الله صانعًا مُقتدرًا، هو الذي يُحرك كل شيء، حتى مُقابلتك لشخص ما لا تعرفه بلا موعد مُسبق هو أمر مُقدّر وليس حدثًا عشوائيًا. الإيمان يجعلك ترى أنه لا عشوائية في الحياة، كل نقطة تصل بك إلى النقطة التي تليها، ولا يوجد ما يُمكن حذفه، فأي نقطة سيتم حذفها قد تجد سيناريو حياتك يتغير كليًا، هل ترى في الأمر بعض المُبالغة؟

أفكارنا هي الأساس

دعني أشرح لك وجهة نظري أكثر، أي شيء يحدث في حياتنا، يُغير من شيئين، أفكارنا ثم مشاعرنا، وعلى هذين الشيئين تحديدًا يُبنى كل شيء آخر في حياتنا. أنت لا تفعل شيئًا، لا تفعل أي شيء، دون أن يكون مُحركك فكرة أو شعور، المشاعر قد يُساهم في بنائها حتى الوجوه الهائمة التي نراها في الشارع دون أن نعرفها أو نعرف حكايتها، المشاعر قد يُساهم في بنائها الابتسامات العابرة، ولحظات المعروف المُتكررة، لحظة معروف مُتمثلة في أن ينحني أحدهم ليحضر لكِ حذاء طفلكِ الذي سقط منه وأنتِ تحملينه، هذا اللطف الذي قد يمحو عن كاهلك بعضًا من قسوة الحياة المُتكررة، تبني مشاعرنا أيضًا لحظات القسوة والانتهاك بالطبع، وإن كان البناء هنا بشكل سلبي يُكسبنا الضيق والقلق ورُبما القسوة المُضادة.

يقول “داير” عن الأفكار والمشاعر وتأثيرهما: “إن أي إبداع من صنع الإنسان يبدأ بفكرة، أو رؤية، أو خيال ذهني، ثم تُطبق هذه الفكرة بطريقة ما لتصنع منتجًا جديدًا”. هنا ينصح “داير” قرائه قائلًا: “قم بالتركيز اليومي على أفكارك لا على سلوكك وتصرفاتك. إن التفكير هو الذي يخلق المشاعر التي لديك وكذلك الأفعال التي تقوم بها في النهاية، لذا حاول أن تُعطي هذا المجال من كيانك كل الاهتمام الذي يستحقه”.

أهمية التسامح لنا أولاً

قرأت مُشاركة من خلال موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تتحدث عن مدى صعوبة المُسامحة، حينما يُخطئ شخص ما في حقك، فهو لم يأخذ منك ساندوتشات إفطارك، ولم يؤلمك لأنه ضغط على إصبع قدمك دون أن يقصد، ما يحدث هو أنه أخذ من سنوات عُمرك التي لن تعود، غيّر فيك تغييرًا سلبيًا لا تستطيع محوه، ترك لك ألمًا وجرحًا غائرًا يؤلمك رغم محاولات نسيانه أو تناسيه، أتأمل المنشور وأرى أنه صحيح بل صحيح تمامًا، السماح فعلًا أمر صعب، رُبما هو أمر قاسٍ، إذا حاولت أن تُجبر نفسك عليه دون أن تكون مُستعدًا له بما يكفي.

في رواية “طعام صلاة حب” تصف الكاتبة الأمريكية “إليزابيث جيلبرت”، السماح بأنه قدرتنا على تحرير الألم داخلنا، قد لا ينال الشخص الآخر شيئًا من سماحك، قد لا يكون لديه ضمير من الأساس ليرتاح ضميره بمُسامحتك، لكنه المُسامحة في النهاية تظل الباب الذي يجعلنا نرحم أنفسنا من كل هذا الألم المكبوت، من تلك السكينة التي تظل مغرسة لتؤلم كلما تحركت، جذب السكينة وإخراجها مؤلم جدًا أيضًا، لكنه ألم مؤقت وسينتهي رغم صعوبته، وهذه هي القدرة على المُسامحة.

يقول “داير” عن التسامح: “إن التسامح عمل ينم عن حب الذات، لا عن سلوك يقدس الإيثار وحب الغير. إنه يعطينا السيطرة على حياتنا وأفكارنا الداخليه”. يقول أيضًا: “كن عطوفًا على نفسك، خصوصًا إذا تصرفت بطريقة لا تروق لك. وكلما قدمت لنفسك العطف والرقة، أصبح ذلك هو رد فعلك التلقائي تجاه الآخرين”.

“سوف تراه عندما تؤمن به”.. يُثبت هذا الكتاب أن هناك الكثير من الونس الذي يُمكن أن تزرعه في أرواحنا تلك القلوب التي تتلمس خُطاها إلى السماء، الأشخاص الذين يحملون قلوبهم على أكفهم ويرفعونها بأقصى ما يبلغ طولهم لكي تلمح شيئاً من النور، وحينما يحدث هذا تتجسد في أرواحهم المعاني التي يمكن أن تصل بسهولة إلى قلوب سامعيهم أيضاً، لعل أبرزها الامتنان للخالق، وهذا ما فعله بي واين داير.

الكتاب على goodreads هنا

اقرأ أيضًا: فى رحلة معرفة الله: القلب موصول بالخالق في كل وقت

المقالة السابقةالخوف من الأمل: لا تجعل حياتك سلسلة من الإحباطات
المقالة القادمةتسلق الجبال النفسية: رياضة من نوع آخر
نيرة الشريف
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا