“فين أيام ما كانت الناس بتروح المصيف عشان تنبسط مش عشان المنظرة”.
أطالع في كل صيف منشورات على فيسبوك تدور حول العبارة السابقة، عن زمن الصيف الجميل الذي ولّى، بعد أن اختفت البساطة من مجتمعنا، وحلت محلها المباهاة الاجتماعية في المصايف، بأفخم سيارة وأغلى ملابس وأحسن جسد له “فورمة الساحل”. أتنهد مع كل تعليق يسترجع ذكريات صيف، كان الاستمتاع عنوانه، رغم محدودية الخيارات وضعف الإمكانات، وكانت البهجة سمته بتجمع الأقارب في شاليه رأس البر أو فايد أو الإسكندرية، وكيف كان الدفء العائلي يذيب الإحساس بحرارة الصيف.
صيف مش مصيف
أغمض عينَي وأسترجع ذكريات الصيف في طفولتي، فأتعجب أن أجمل ذكرياتي لا تشمل البحر، صحيح أن أول ما قد يستدعيه الذهن عن الصيف هو البحر ورائحة اليود، لكن ذكرياتي الرئيسية عن الصيف لا تتمحور حوله. يشبه الأمر أن تسترجع ذكريات حفل تخرجك، هل تتذكر شهادة التخرج حينها؟ لا أظن، وإنما تتذكر بهجة اليوم، التجهيز لما سترتديه، الاتفاق مع الأصدقاء عن نقطة التجمع للانطلاق إلى الحفل معًا.. وهكذا، وكذلك هو الأمر معي، لا أذكر البحر كمحور أساسي لذكريات الصيف، وإنما ثمة أشياء أخرى أحفظها بقلبي عنه، ذكريات تشمل أشخاصًا.. ألوانًا.. فواكه.
نسائم الصيف مع صوت الست
أغلق عيني فأعود إلى المرحلة الابتدائية، طفلة تستيقظ بعد عصر آخر أيام امتحانات نهاية العام على صوت أم كلثوم المنبعث من كاسيت “عمو مجدي”، صاحب محل عصير القصب الواقع على ناصية شارع منزلنا القديم، ربما لم يعلم عمو مجدي أبدًا أنه أول من جعلني أحب صوت الست، صحيح أنني وقتها لم أفهم ما تشدو به، لكن قلبي تعلق بها، واكتشفت مع العمر صحة نظرية “أما تكبر هتحب أم كلثوم”؛ إذ يقتضي حب الست أن يكون لامس القلب نسيم تجربة ما، فلا تمر حينها الكلمات وآهات صوتها على القلب فحسب، وإنما تسدد فيه طعنة مباشرة. على كل حال نجح “عمو مجدي” -دون أن يدري- في أن يُشكِّل بداية معرفتي بالست، وجزء أصيل من ذكرياتي عن الصيف.
اللعب في الشارع
ثمة أمان من نوع ما في أن تترك أولادك يلعبون أمام المنزل، وأنت تعي جيدًا أنه إن غابت عينك عنهم، فكل أعين الجيران تتبعهم
في الصيف أسعدني حظي كطفلة ولدت في الثمانينيات بحي متوسط، أن أعايش معنى الشارع الذي يعرف كل الجيران فيه بعضهم، ثمة أمان من نوع ما في أن تترك أولادك يلعبون أمام المنزل، وأنت تعي جيدًا أنه إن غابت عينك عنهم، فكل أعين الجيران تتبعهم.. عايشت ذلك المعنى، فجريت في الشارع ولعبت مع أصدقائي في حماية أخي وأولاد شارعنا.
كنا نبدأ الإجازة بمشاجرة شهيرة مع الأصدقاء الأكبر سنًا ممن لم ينهوا امتحاناتهم، إذ كانوا يعتبرون لعب مَن أنهى امتحاناته عدم تقدير لكونهم يذاكرون، فكانوا يتحججون بأنهم لا يستطيعون التركيز من ضوضاء لعبنا، في حين أن الأمر كله كان “إنهم متغاظين”، لكن كانت كل الخلافات تذوب بمجرد انتهاء امتحاناتهم، كنا ننسى كل شجار ونفكر في أمر واحد فحسب: الاستمتاع بالصيف.
كوز عصير القصب
أواصل إغماض عيني فأسمع صوت جدتي الراحلة وهي تخبرني بأن حرارة الجو محتاجة عصير قصب “يطرِّي على القلب”، تمتد يدها لتناولني خمسة جنيهات وإبريقها البلاستيكي الأحمر المميز، لأذهب لمعصرة “عمو مجدي”. كانت الجنيهات الخمسة حينها كافية لتملأ الإبريق عن آخره وتكفي العيلة. كنت أفرح للغاية، لا لأنني سأشرب مشروبي المحبب، وإنما لأن جدتي اختصتني من بين أحفادها بمهمة شراء العصير، واستأمنتني على حمل إبريقها الكبير. كنت أسير بالإبريق في الشارع بفخر كمن أنهى لتوه مهمة حربية.
توقفت من سنوات طويلة عن شرب القصب، لتقليل السكريات التي أمررها إلى جسمي، لكنني أكاد أجزم أنه لم يعد بإمكان كوب عصير قصب في العالم بأسره أن “يطرِّي على القلب”، كما كان يفعل كوب أشربه مع جدتي رحمها الله، فجمال كل شيء لا ينبع منه بذاته، وإنما ممن يشاركنا إياه.
summer camp التمانينات
والكون ده كان زمان ميسعش حتة من قلبي
أُقلِّب أكثر في أروقة النوستالچيا بقلبي عن الصيف، فأراني طفلة تسحبني أمي من يدي أنا وصديقتي لنقضي الإجازة في إحدى المكتبات العامة، التابعة لمشروع القراءة للجميع آنذاك، فنكتشف هناك أن عددًا من أصدقاء المدرسة في نفس المكتبة، لنبدأ جميعًا إجازة صيفية ممتعة: قراءة.. تلخيص كتب.. مسابقات.. تأليف أغانٍ ومسرحيات واستعراضات. انطلقنا هناك كالنجوم، وكان الكون بأكمله وقتها مسرحنا على غرار ما غناه منيب: “والكون ده كان زمان ميسعش حتة من قلبي”.
هناك كانت بداية عهدي للتعرف على إحسان عبد القدوس وطريقته القصصية البديعة. ما زلت أذكر ما كتبه عن أن القصة القصيرة لا يمكنك أن تتغلب فيها على ضعف الفكرة بجمال الأسلوب، ولا أن تتحايل فيها على ضعف الأسلوب بجمال الفكرة، فاتخذته منهجًا حياتيًا، فإن اشتريت هدية جميلة أحرص على ألا يُفوِّت جمالها سوء التغليف، وإن أردت أن أخبر شخصًا بشيء إيجابي أنتقي كلماتي حتى لا تُفسد جمال المعنى المقصود. اكتشفت في ذلك الصيف بينما أقرأ روايات عبد القدوس أن معظم شؤون الحياة تدور حول الاهتمام بالأمرين: الفكرة، وطريقة تنفيذها، وأن جمال أحدهما يفسد بإغفال الآخر.
التين الشوكي والبطيخ
أتوغل عميقًا في بحر نوستالچيا الصيف، فتطل في رأسي فاكهة الصيف التي تجذبني بألوانها أكثر من مذاقها، حتى أنني أظنني أحيانًا أعاني هوسًا بمتابعة ألوان الفاكهة، على غرار هوس فؤاد المهندس بأحذية السيدات في فيلم “مطاردة غرامية”، وبخلاف ألوان الفاكهة طالما أسر قلبي التين الشوكي، تلك الفاكهة الصيفية اللذيذة، فلا أعرف هل كنت أحب التين لأنه يثلج الصدر مع شدة الحرارة، أم لدهشتي المتجددة في كل مرة أشتريه بتلك البطولة الخارقة التي يظهرها البائع في تعامله مع الشوك دون أن تتأذى يداه.
أما البطيخ فطالما أحببته، لأنني بفضله رأيت أول معرض فني في حياتي، كان المعرض في أجزاخانة منزل جدتي، لم يخل منزلاً قديمًا من تلك القطعة الخشبية ذات الواجهة الزجاجية التي تحوي بعض المستلزمات الطبية البسيطة كإسعافات أولية، لكن خالي الأصغر غيّر استخدامها فجعلها معرضًا لأعماله الفنية، التي كان يُعِّدها من بذر البطيخ بعد تحميصه وتشكيل رسوم به، يلصقها على ورق مقوى ويعرضها في الأجزاجانة. كنت كلما أنظر إلى لوحة جميلة موضوعة إلى جانب كيس قطن طبي أو زجاجة دواء، أشعر أن للأمر معنى فلسفيًا لم يقصده خالي، وهو أن لا ألم يخلو من لطفٍ ما يصاحبه، أو ربما أن في كل أمر جميل يكمن بعض الألم.
بنك الحظ وكونيكت فور
تذيب قلبي ذكريات الصيف دومًا، يدغدغني الحنين كلما تذكرت لعب بنك الحظ والكوتشينة وconnect 4، مع أقاربي، أو تذكرت تجمعنا أمام شاشة “النايل تي ڤي” في الخامسة مساءً لمشاهدة مسلسل “يوميات ونيس” مع كوب شاي العصاري، أو كلما تذكرت مصيف الكلية في مرسى مطروح الذي أهداني فرصة لاستكشاف جانب مبهج في صديقاتي لم أكتشفه من قبل. أتنهد بابتسامة حنين لكل تلك الأوقات الجميلة، فأتيقن أنه إذا كان يقال إن مشاهدة الصور القديمة قد يفيد في تذكير المرء بأنه قد عايش أوقاتًا سعيدة، فإن الأمر نفسه ينطبق على مراجعة ذكرياتنا القديمة، فهي أيضًا شاهد على أننا سرقنا من الحياة أيامًا حلوة.