لا يأس مع الشغف

1492

الشغف كلمة ساحرة، وقعها على الأذن مميز، ما إن تسعمها حتى تتذكر الحب، المتعة، والسعادة. الشغف هو الوقود الذي يحرك بداخلنا الرغبة في الحياة رغم كل ما تحمل هذه الحياة من ضغوطات وأعباء، الأمل الذي يدفعنا لنستيقظ كل يومٍ لنروي شغاف قلوبنا بما نحب. الشغف هو كل ما فكرت فيه وأنا أتابع فيلم The Intern (2015).

لأنه وحده الذي يُفسر كيف استطاع الرجل السبعيني (بين وايتكر/ روربرت دي نيرو) أن يقبل أولاً وظيفة صغيرة كمتدرب في مجال لا يعرف عنه شيئًا، ثم ينجح فيه نجاحًا كبيرًا ثانيًا. أكتب هذا وأنا أتذكر بعض كلماته التي يُعرف بها عن نفسه “أنا أريد التواصل، الحماس، التحدي، وأن يحتاجني الناس”، وعندما اعترف بأن معرفته بالمجال التقني محدودة، قال مطمئنًا من يشاهده “لكني سأتعلم، فأنا شغوف بالتعلم”. باختصار كل الصعاب تلين إذا قوبلت بالشغف.

أعرف جيدًا أن كلمة “الشغف” فقدت الكثير من رونقها في الآونة الأخيرة، فقد تم ابتذال الكلمة ومعناها في أروقة “السوشيال ميديا”، فأصبح كل من هب ودب يستخدم الكلمة وفي غير موضعها أيضًا، لكني الآن أريد أن أذكر نفسي وإياكم بأن “الشغف” ليس مجرد كلمة نضعها في جمل للتباهي أو استحضار روح العمق أو السخرية. الشغف حياة، وإن كنت لا تُصدقني فاقرأ معي الحكايات التالية.

الحاجة عريفة – فلسطين

الحاجة عريفة ملايشة فلسطينية تبلغ من العمر 78 عامًا، تعيش بمفردها في بيتٍ بسيط في قرية جبع – جنوب جنين. فنانة يتحول الطين بين يديها لتحفٍ فنية في غاية الروعة، إنسانة شغوفة بالعلمِ لأقصى درجة. حُرمت التعليم في صغرها بسبب مرض والدتها الذي أقعدها عن العمل، فكان لزامًا عليها أن تحل محلها فيه، فكبرت لا تعرف القراءة ولا الكتابة.

أولى خطوات الحاجة عريفة في طريق العلم كان من خلال برنامج محو الأمية الذي نظمته مديرية التربية والتعليم في جنين، والذي توقف فجأة، لكن شغفها بالعلم لم يتوقف معه، لتسعى الحاجة عريفة جاهدةً للالتحاق بمدرسة جبع الابتدائية، وتصبح نجمة القرية ثم القنوات المتلفزة عام 2012 باعتبارها السبعينية التي تدرس في الصف الثاني الابتدائي جنبًا إلى جنب مع صغيراتٍ في عامهن الثامن. الحاجة عريفة لم يحول بينها وبين التعلم لا الشيخوخة ولا الفقر ولا المرض، طموحها تجاوز أن تتعلم القراءة والكتابة فقط، فتجدها تحلم بتعلم كيفية استخدام الكمبيوتر والإنترنت، بل والحصول على وظيفة أيضًا. الحاجة عريفة ستظل تتعلم حتى آخر لحظة في عمرها.

ليليان ويبر – الولايات المتحدة الأمريكية

ليليان ويبر أمريكية تبلغ من العمر مائة عامٍ، تعيش في ولاية آيوا – الولايات المتحدة الأمريكية. في عيد ميلادها السابع والتسعين وضعت لليليان لنفسها هدفًا نبيلاً، وهو حياكة ألف ثوب لتهديها لمنظمة خيرية تقدم خدماتها للأطفال المحتاجين في إفريقيا. خلال عامين استطاعت ليليان أن تحيك 840 ثوبًا، بمعدل ثوب كل يوم، واستطاعت أن تكمل الألف عندما بلغت المائة، وبذلك أنجزت تحديها النبيل لنفسها. 

كانت ليليان تبدأ عملها صباحًا، ثم تأخذ استراحة في منتصف النهار، وتضع اللمسات الأخيرة على الثوب في نهاية اليوم. تحملت الإرهاق اليومي على مدار ثلاثة أعوام، فقط لأنها كانت شغوفة بما تفعل، لأنها كانت تستشعر سعادة كل صغيرة ستلبس أحد أثوابها، فيمنحها الشعور قوة لتستمر. 

تيدروميل – الولايات المتحدة الأمريكية

د. تيدروميل جراح أمريكي يعيش في ولاية ميزوري الأمريكية. قبل عام 2010 كان يمارس حياته الطبيعية كجراح ناجح في مستشفى أوفالون، حيث كان يُجري ما يقارب ألف جراحة سنويًا، لكن حياته انقلبت رأسًا على عقب بعد اكتشاف ورم بالقرب من العمود الفقري تسبب له في شللٍ نصفي أقعده عن ممارسة عمله طبيبًا. غاب د. روميل عن الطب مدة عامين عانى خلالهما من تدهور صحته الجسدية والنفسية، ولم يفلح معه أي علاج سوى العودة مرة أخرى ليؤدي دوره الذي خلق لأجله، عاد د. روميل جراحًا ماهرًا يجري الجراحات كما اعتاد من خلال كرسيٍ متحرك صمم له خصوصًا ليساعده على الوقوف أثناء إجراء الجراحات. شغف د. روميل بالطب هزم المرض والشلل والاكتئاب، هزم المستحيل.

هذه النماذج ما هي إلا نقطة في بحر، فالحكايات عن الشغف لا تُعد ولا تُحصى.أنا مثلاً لي حكاية معه، بالتأكيد هي أبسط من الحكايات التي أوردتها هنا، مع هذا سأسمح لنفسي أن أسردها علّها تلهم أحدًا ما. في إحدى السنوات تعرضت لتجربة مريرة، شعرت معها أن الحياة دفعتني في نفقٍ مظلم لا سبيل للخروج منه، بعد الكثير من الوجع والتخبط، سألت نفسي “ماذا كنت أحب وأفعل قبل هذه التجربة؟” تذكرت عندها شغفي بالسينما والقراءة، وكان في ذلك خلاصي. هزمت وجعي بالسينما، وآنست وحشتي بالكتب، وخرجت من النفق المظلم بسلام.

وأنت؟ ماذا عنك؟ حدثني قليلاً عن شغفك.

 

المقالة السابقةالأدوات المنزلية غير السحرية
المقالة القادمةعن ذوي متلازمة داون(1): ويختصكم الله بالحكايا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا