أسرار العلاج بالسيكودراما وخطوات العلاج

5609

إهداء: إلى ملاكي الحارس منى الشيمي، معرفتك أجمل ما حدث لي في مصر.‏

عندما تعيش في بيئة حرب، يصبح القلق عرضًا جانبيًا للحياة. من قرأ لي سابقًا يعرف أني فلسطينية، عشت 31 عامًا في غزة، ‏وفي غزة أنواع القلق كثيرة، لكن القلق على الحياة يطوي تحت جناحه كل الأنواع الأخرى. أحاول أن أتذكر متى بدأ القلق على ‏الحياة يصبح من مفردات حياتي، فتقفز إلى ذهني صورتي وأنا طفلة أستعد للذهاب إلى رياض الأطفال، أنزل السلم مع والدي ‏بينما يصعد بعض جنود الاحتلال المدججين بالسلاح إلى سطح البناء الذي أقطن فيه، باعتباره الأعلى في المدينة.‏

أعتقد أن مرحلة القلق على الحياة بدأت منذ لحظة الميلاد، فقد كنت واحدة من مواليد الانتفاضة الأولى، وجاءت لحظة ميلادي ‏وسط حالة من منع التجوال في قطاع غزة فرضتها سلطات الاحتلال، تبرع أحد الجيران لإيصال والدي ووالدتي وجدتي في ‏سيارته، بينما توسلت جدتي للضابط المحتل أن يسمح لهم بالمرور تجاه المشفى، قالت له: “يا خواجة، حرام مراة ابني بتولد”، ‏أجابها بلغة عربية ركيكة: “كله إولد كله إولد”، ثم جئت أنا لهذا العالم. ومنذ ميلادي حتى هذه اللحظة لم ينتهِ عهد الحروب في غزة.

عندما أعلن الخراب في داخلي احتجاجه: السفر إلى بيئة آمنة

مع بداية عام 2019، كنت قد اكتفيت من غزة. تقول الشاعرة وداد نبي في إحدى قصائدها: “أحبها تلك البلاد حتى في خرابها ‏الأخير”، وأنا بالفعل أحب غزة حتى بخرابها، لكن خرابي الداخلي كان أكبر من أن أكمل حياتي هناك، فكان أن سافرت إلى مصر، ‏وطني أيضًا الذي أحب.‏

كنت أظن أن القلق سينتهي تمامًا ما إن أطأ أرض المحروسة، لكن للأسف بدأ قلق من نوعٍ آخر. من رفح المصرية وحتى مدينة ‏الإسماعيلية لم أشعر أن مصر تختلف عن قطاع غزة، لكن ما إن وصلت القاهرة، بشوارعها الواسعة ومبانيها العالية، حتى بدأ ‏الخوف يدب في أوصالي، وكانت أول بوادر القلق بسؤالٍ يضرب خلايا مخي: “هتعدي الشوارع الواسعة دي إزاي من غير ما ‏تخبطك عربية تجيب أجلك؟”.‏

صعوبات التأقلم مع البيئة الجديدة

أعترف أني وصلت القاهرة بسقفِ توقعاتٍ مرتفع للغاية، وكان أن “اتطربق على نافوخي” والحمد لله. كنت أريد مقابلة كل ‏الصديقات والأصدقاء، المشاركة في كل الفاعليات الثقافية التي تمر عليّ، شراء الكثير والكثير من الكتب، دخول السينما وحضور ‏الحفلات، فعل كل ما كنت أحلم به على سريري في غزة، أما ما حصلت عليه فكان شهرين من الجلوس على السرير في بيتي في ‏مدينة نصر.‏

القاهرة مدينة جديدة ومختلفة تمامًا، سبق أن عشت في مدينة العريش لفترة، وفترة أخرى في مدينة شبين الكوم، لكن القاهرة متاهة ‏عملاقة، تحتاج معها إلى مرشد يرافقك في أول أيامك هناك، ولم يكن هذا المرشد متوفر لي. أحلامي انهارت، بكاء مستمر طوال ‏الشهرين، ورغبة في العودة إلى غزة، لأن السرير هناك لا يختلف عن السرير في القاهرة.

السيكودراما: بداية العلاج من القلق والخوف‏

كان يفصلني عن العودة إلى غزة مع والدي أيام، بعد أن فشلت في التأقلم مع الحياة في القاهرة، وحال دون ذلك أن رأيت إعلانًا ‏عن ورشة للسيكودراما. العلاج بالسيكودراما كان مصطلحًا سمعته للمرة الأولى من خلال موقع “نون”، عندما كنت مجرد قارئة شغوفة ‏بكل ما يُكتب على الموقع، بعض الكاتبات كان لهن تجربة رائعة جدًا مع ورش السيكودراما، التي كانت تديرها الروائية ‏وأستاذة الأدب الإنجليزي ومدربة السيكودراما د. سحر الموجي، وعندما اطلعت على تجربتهن أصبح الاشتراك في واحدة من ‏هذه الورش على رأس قائمة أولوياتي في الحياة.‏

هذه المرة قررت أن أسجل في الورشة، وفي حال تم قبولي سأذهب مهما كلفني الأمر، ولن أجبن وأخاف كما حدث مع كل ‏المشاريع السابقة على أرض القاهرة. اللافت أن مكان إقامة الورشة كان بعيدًا للغاية عن منزلي، لكن إصراري على الذهاب كان ‏كبيرًا، وبعد أن وصلني إيميل القبول، قمت بعمل بروفة مع والدي للذهاب إلى مكان الورشة، حتى أستطيع أن أذهب في الموعد ‏المحدد وحدي.‏

تعريف السيكودراما

بحسب تعريف د. كمال الدين حسين، في كتاب الدراما والمسرح في العلاج النفسي، فالسيكودراما: واحد من أساليب العلاج ‏الجماعي التي أسسها عالم النفس النمساوي “مورينو”، كتقنية علاجية في العشرينيات من القرن الماضي، في الوقت الذي بدأت ‏أوروبا تستيقظ من الخراب الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى والفاشية، كامتداد للتحليل النفسي الذي ابتدعه فرويد. لكن إن ‏كان التحليل النفسي يعتمد على علاج حالات فردية، فالسيكودراما أسلوب جماعي يعتمد على وجود الفرد داخل الجماعة. تعمل ‏هذه الجماعة على تهيئة الفرصة للفرد، للتعبير التلقائي عن مشاكله النفسية، ويتخذ هذا التعبير أشكالاً ذات طبيعة درامية متعددة ‏في التعبير اللفظي والأدائي بالحركة والفعل.

أسرار العلاج بالسيكودراما

ورشة سيكودراما لتمكين المرأة، كانت عبارة عن تدريبٍ لمدةِ 6 أيامٍ موزعة على شهرين، مع مدربتيّ السيكودراما د. ‏شيماء مسلم الطبيبة النفسية وأ. منى الشيمي أخصائية العلاج النفسي، تُعاونهما أخصائية العلاج النفسي إسراء عبد الفتاح، اللاتي ‏أحمل في داخلي لهن كل الحب والتقدير والامتنان.‏

أجد صعوبة بالغة في التعبير عن ما حدث خلال الورشة، سأستعير تعبير صديقتي نورهان بأن الأمر كان أشبه بالمخاض، حتى ‏نولد من جديد، بعد أن اكتشفنا بداخلنا مصادر دعم وقوة كنا نجهلها أو كانت متوارية. مخاض استخدمنا خلاله الحركة والرقص ‏والغناء والتمثيل واللعب حتى تتم عملية الميلاد بسلامٍ تام. 6 أيامٍ من أروع وأصعب الأيام التي عشتها في حياتي، ضحكت وبكيت ‏وارتعبت وتألمت وارتحت، ليس في يومٍ واحد، بل ربما مرت كل هذه المشاعر في ساعة واحدة، لكن الجميل أنها مشاعر جماعية، ‏مشاعري متوحدة مع مشاعر أكثر من 20 امرأة من جنسياتٍ مختلفة وأعمارٍ وشخصياتٍ متنوعة، لكن الوجع وحَّدنا، والأمل في غدٍ ‏أفضل جمع بيننا.‏

أتذكر أني في وسط أحد التدريبات، أصابتني نوبة هلع، فهربت من غرفة التدريب، قررت أن أنتعل حذائي سريعًا وأهرب إلى ‏أبعد مكانٍ عن طاولة التشريح هذه، لولا أن لحقت بي أ. إسراء لتهدئ من روعي، وتخبرني أن الأمر يستحق الصبر، وأن الورشة ‏مجرد خطوة في رحلة علاج القلق والاكتئاب وكرب ما بعد الصدمة. أتذكر د. شيماء عندما أخبرتها أني لم أقلق يومًا على حياتي، ‏فأنا لا أخاف الموت ولا يهزني قصف الطائرات، ففتحت عيني على حيلة جسدي في تعطيل شعور القلق، ومعه قام بتعطيل ‏مشاعر أخرى كالفرح والحزن، فاكتشفت بذلك كيف كانت حياتي بالكامل معطلة.‏

اقرأ أيضًا: علاج كرب ما بعد الصدمة: نصائح وأماكن للدعم

وفي كل مرة هجم القلق عليّ وعلى صديقاتي المشاركات، كانت أ. منى تحتوينا بتمرين الاحتواء، حيث أقف باستقامة مغمضة ‏العينين، مباعدة ما بين قدمي، وأشعر أني شجرة وجذوري ضاربة في الأرض، ثم أبدأ بالاعتناء بجسدي بالتربيت عليه، وكأني ‏أهدئ من روعه، ثم أمسح عنه ما علق من قلق ومشاعر سلبية، أصب كل تركيزي على جسدي وأسمع منه ما يشعر به. ثم أفتح ‏عيني وأبدأ بعدِّ الألوان في المكان الذي أقف فيه، إلى أن أصل إلى لوني المفضل في تلك اللحظة، ثم أستمتع بوجوده قليلاً. ‏أعود مرة أخرى لأغمض عيني وأستحضر أغنيتي المفضلة بشكلٍ عام أو الأغنية التي في بالي في اللحظة الحاضرة، ثم أبدأ ‏بغنائها بصوتٍ هامس يرتفع تدريجيًا إلى أن يصبح صوتًا مسموعًا، ثم أعود لخفض صوتي تدريجيًا، إلى أن يصل لمرحلة الهمس ‏ثم الصمت.‏

تمرين الاحتواء باسمه المطمئن، كان أفضل ما تعلمت في الورشة، وأفضل وسيلة أخفف بها حدة نوبات القلق أو الفزع، قد يبدو ‏التمرين صعبًا عند قراءته للمرة الأولى أو يأخذ وقتًا من الزمن، لكنه في الحقيقة لا يأخذ سوى بضع دقائق. عندما انتهت الورشة، ‏بمعرفة أكبر ووعي أعمق وصداقات جديدة، تخليت تمامًا عن فكرة العودة إلى غزة، وبدأت أتأقلم مع حياتي الجديدة في مصر.‏

العلاج النفسي بالسيكودراما والكتابة الحرة

بعد فترة بسيطة من انتهاء ورشة السيكودراما لتمكين المرأة، نصحتني صديقاتي بالتسجيل في ورشة سيكودراما – كتابة، كانت ‏الورشة الثانية مع مدربتي السيكودراما د. سحر الموجي وأ. منى الشيمي.

خلال الورشة كانت السيكودراما والكتابة كطريقين متوازيين لاكتشاف النفس وزيادة الوعي، وإدارة العلاقة ما بين النفس والعالم ‏الخارجي والتعرف على أجزاء النفس المختلفة، الظاهرة والمتوارية، من خلال تمارين السيكودراما التي لم تختلف عن تمارين ‏الورشة الأولى كثيرًا، بالإضافة إلى تمارين الكتابة الحرة، التي من حسن حظي أن كانت مدربتها الروائية الرائعة د. سحر الموجي.‏

أحد تمارين السيكودراما
دائرة الألوان، أحد تمارين السيكودراما

مع د. سحر تعلمنا كيف تكون الكتابة الحرة كوسيلة لتفريغ المشاعر على الورق، أيًا كانت المشاعر سلبية أو إيجابية، أن يكون ‏الأمر أشبه بسكب هذه المشاعر، دون إشغال العقل والحواس باللغة أو علامات الترقيم أو المفردات اللغوية البراقة. في كل تمرين ‏كانت تأخذني د. سحر بصوتها الهادئ المطمئن إلى مكانٍ ما داخلي، أو مكانٍ تحكي عنه هي وأبنيه أنا في خيالي، أو مكانٍ آمن ‏نسيته في خضم الحياة، أعيش دقائق من اكتشاف نفسي ومشاعري في هذا المكان، ثم أعود لأسكب ما أشعر به على الورق، الذي ‏لا يطلع عليه أحد في النهاية سواي. خلال تمارين الكتابة الحرة فرغت العديد من المشاعر داخلي: فرح، إرهاق، خوف، قلق، ‏غضب، حزن، حيرة. بالإضافة إلى كتابة رسائل لنفسي الآن وبعد 10 سنوات ولمصادر قوتي.‏

كتابة حرة
إحدى البطاقات المستخدمة في تمارين السيكودراما والكتابة الحرة

السيكودراما في علم النفس

السيكودراما شكل من أشكال العلاج النفسي باستخدام تقنيات المسرح، لا أحد ينكر قدرتها على مساعدة الشخص في تخطي بعض المواقف العالقة في داخله أو مساعدته على معرفة مصادر القوة والدعم، لكنها ليست العلاج الكافي، ففي معظم الأحيان، يكون العلاج النفسي مع طبيب متخصص أو أخصائي -حسب الحالة- ضرورة لا تقبل التأجيل.

عندما أنهيت الورشة الأولى، أدركت أني أحتاج إلى طلب مساعدة نفسية مختصة، لكن كنت متخوفة من اتخاذ هذه الخطوة. ومع ‏انتهائي من الورشة الثانية ذهب عني التخوف بعد أن حظيت بدعم الكثير من الصديقات الرائعات اللاتي اكتسبتهن من الورشة، ‏وتم الأمر بمرافقة صديقتي العزيزة رُبى. إذا شعرتِ أنكِ بحاجة لرؤية طبيب/ أخصائي نفسي، فلا تترددي، صحتك النفسية واستقرارك النفسي أولوية قصوى.

اقرأ أيضًا: ولكم في السايكودراما حياة

المقالة السابقةالأمومة مضطربة جدًا: من أين نبدأ تطوير الأطفال؟
المقالة القادمةزيارة السوق مع جدتي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا