بقلم: دعاء حسام الدين
تذكرت عندما كانت تصطحبني جدتي معها لنذهب إلى السوق الصغيرة في مدينتنا، كانت تبدو لي الأشياء كلها مبهرة، بداية بعربة الحنتور التي يقودها عم حسن الطيب، طالما قال له جدي “إزيك يا عم حسن يا راجل يا طيب”. وقتها لم أكن أدري هل هذا اسمه الثنائي أم ـن حنين جدي لأيام بلدته الأم (السويس) بشواطئها الساحرة هو فقط ما يجعله يحافظ على علاقته بعم حسن قائد عربة الحنتور، لأنه ما تبقى له من أيامه الجميلة.
ما بين الحيرة في التعرف على حقيقة اسم عم حسن قائد الحنتور كانت سعادتي بذلك اليوم لا توصف. تناديني جدتي بملامحها الطيبة الحازمة بعض الوقت، لمساعدتي في ارتداء فستاني الأحمر اللون، وفي صوتها نبرة من السعادة على رغبتها في تحقيق المهام ونزول السوق، للحصول على بعض الأغراض التي تساعدها على إتمام عملها على ماكينة الخياطة، فجدتي كانت عاشقة لصوت ماكينة الخياطة، وكانت تجد لنفسها الوقت لتصمم ملابس وفساتين الأحفاد، ففي ذلك العمل سرور ونشوة تسكن قلبها وتجعلها تشعر بكيانها وأهميتها كربة منزل. وقتها لا أذكر ما كل هذه السعادة التي تنتاب قلبي، ولكن زيارة محل حسني الذي يمتلئ بالزراير والكلف ولن تخلو فاترينته من الحلي وربطات الشعر الصغيرة الملونة، كفيلة بأن ترسم البسمة على وجه عشرين صغيرة مثلي.
زجاجات العطور المتراصة على أرفف المكان بقدر ما تتشابه في روائحها كانت تخطف قلبي قبل أنظاري، تجعلني أمسك بيد جدتي التي سرعان ما تفهم رغبتي الشديدة في اقتناء زجاجة عطر أو رابطة شعر مختلفة. تنظر لي برفق وتطالبني بالانتظار حتى تنتهي من شراء الأغراض التي نزلت من أجلها، ثم تحضر لي ما أرغب.
نخرج من المكان وأنا في قمة السعادة، في انتظار التجول في أروقة السوق، بحثًا عن باقي الأغراض. لم نعبأ وقتها بأي قلق يحاوطنا أو أي مخاطر نتعرض لها، فشبح الكورونا لم يراودنا بعد، فكانت جدتي تدخل السوبر ماركت أو محل البقالة الصغير وقتها لشراء ما يحتاجه البيت من تموين وأغراض لتحصل على كل ما ترغب ونخرج آمنين باحثين عن مواصلة تأخذنا إلى المنزل، عائدين من رحلة التسوق لا يسكن قلوبنا ولا أغراضنا شيء من الخوف لا يزيله سوى زجاجة الكحول والكلور.
ثم تهم جدتي لزيارة جارتنا وصديقتها الأقرب إلى قلبها، طنط رجاء، كانت سيدة هادئة الوجه حاسمة الملامح، والتي كنت أخشى منها بعض الوقت، رغم هدوئها الدائم وحديثها المنمق. كانت وجدتي تتبادلان أطراف الحديث عن أحوال السوق والأسعار الدائمة في الارتفاع، ومحل الخردوات الذي بات يفتقر لكثير من الخامات، وأنا عيناي لامعتان تجوبان أرجاء المنزل، باحثة عن دمية صغيرة أو قصة من المكتبة الخضراء، لعلي ألهو بها حتى تنتهي الزيارة، لكن أكثر ما يلفت نظري هو عدم خوض جدتي أو جارتها في سيرة البشر، فلا استمعت منهما يومًا إلى “انظري ماذا فعلت فلانة” ولا “ماذا سوت علانة”! فكان حديثًا راقيًا، والأهم أن الكورونا لم تظهر في حديثهما، وهذا ما أذكره جيدًا، هدوء الزيارة وحديثها الآمن.
لا أعلم متى سينتهي كابوس الكورونا ونعود لحياتنا الطبيعية، أو حياتنا التي اعتدناها وكثيرًا ما تمردنا عليها، ولكن كل ما نتمناه من الحياة أن تعطي لنا فرصة أخرى فرصة للامتنان لكل النعم حولنا، للعودة إلى ما كنا عليه حتى وإن كان روتينيًا، ولا تجعلنا الحياة نقف عند ذكريات السوق القديمة مع الأجداد.
اقرأ أيضًا: جدتي وحكايات المطبخ
مشاء الله اسلوب جميل وشيق جدا 😊