مربع ورقي صغير أجلس بداخله

981

صباح يوم هادئ من صباحات يناير، أوشك أن أنتهي من إحدى الروايات التي تعيد اكتشاف العالم من حولي، أعيد اكتشاف العالم بها، كما أعيد اكتشاف أحد الكُتَّاب الكبار، لا مجال لذكر اسمه الآن، لأنني سأكتب عنه الكثير والكثير لاحقًا.

 

لم أستمع اليوم لصوت المؤذن المزعج الذي لا تنصفه حالات البرد الشديدة، التي تنتابه بشكل دوري، فلا أفهم منه شيئًا، وينتهي الأمر بإغلاق زجاج الشباك. حلَّ محله مؤذن آخر أعلن عن الصلاة بصوت رخيم عذب. كما لم يمر البائع المتجول الذي ينادي على العسل الأسود بإصرار شخص ما يقتله أحدهم.

 

أكتشف اليوم “فولدر” ممتلئًا بالمقطوعات الموسيقية العظيمة التي تنصفني فيما أفعل اليوم، حيث وجدتها أمامي دون سعي مني، تحت عنوان “أفشوا الموسيقى بينكم”. أجلس على الرواية وأدوِّن منها الكثير الذي أرغب في استحضاره أثناء كتابة أراهن بها على الأيام، وأنا في طور التعرف على نفسي من جديد وعلى القلم. أجلس لا أفعل شيئًا سوى القراءة، كما لو أن أحدهم فتح لي بابًا من النور وقال لي “ادخلي، لكن انتبهي، شروط الدخول هي التفهم والسعي والمحبة والاجتهاد والتأمل والأمل والحنين والحماس والصدق والإنصاف والموضوعية والابتكار، وكل ما تقع عيناكِ عليه من كلمات محض ميلاد جديد”.

 

أغادر طاولتي الصغيرة في صالة منزلي كل فترة، لأدخل ابنتي الحمام أو أطعمها بعضًا من الطعام والمحايلة عليها لإكماله، وتركها أحيانًا على راحتها، خصوصًا حين تخبرني قائلة “إنتي مش بتحترمي رغبتي.. مش عايزة آكل”.

 

أهب من أمام الورق كلما لمستني كلمات التقطتها عيناي في الرواية، أقف وأنا أنظر إلى السطور والأوراق حولي، ثم أجلس مرة أخرى، وأنتقل ما بين كتابة وتأمل للقصة التي مسَّتني هي الأخرى، فتجاوزتُ معها أنها مجرد عمل أقوم به من أجل المال، إلى حد الالتحام بها وبأبطالها، ومراهنتي على قانون “الغرقى في ذمة المتفرجين” كما قال عمنا نجيب محفوظ.

 

أفعل شيئًا جديدًا لم أفعله من قبل، فقد جعلت المقطوعات الموسيقية في أذنَي لا أحيد عنها، رغم أنني كنت بشكل يومي أدير أزرار “اللابتوب” عن طيب خاطر لأستمع إلى أغنياتي المكررة، وأعيش معها ما يحلو لي من عوالم غير مرئية، منها: “يمامة بيضا”، “يا حلم عمري”، “بدور عليكي في كل الوشوش”، “صوتك معايا”، “سمرا وبعيون كحيلة”، “الصبر في الظاهر والمر في المُهجة”، “سحب رمشه”، “كنت بشتقالك وأنا وإنت هنا”، “غني للدنيا”، كما لو أنه كان “كورس” أواجه به العالم كل يوم بنفس الأغاني.

https://soundcloud.com/salsabil-10/y8wnb9gkoret

 

أترك المقطوعات الموسيقية الجديدة تتسلل إلى أذني، تأخذني بعيدًا بعيدًا حيث تريد، وأتأمل أثناء ما أقوم به ملامح الموسيقى، لأجدها عن غير قصد تشبه كل سطر وحالة وفصل من الرواية، تنتقل معي ومعها كما لو أن مايسترو مثقفًا قرأ جيدًا الرواية ليضع لها موسيقى ملائمة. الورق يُترجَم إلى مزيكا كما لو كانت موسيقى تصويرية تجيد قراءة السيناريو الذي كُتِب خصوصًا من أجل الكاتب البعيد جدًا الآن ومن أجلي فقط.

 

كيف عرفت الموسيقى أن البطلة هنا غادرت حبيبها، أو أن البطل يعترف بحبه لحبيبته مرددًا “أريد الشفاء منك”؟ كيف جاءت المقطوعة الفرنسية تلك بكل هذا التفهُّم لحالة الرجل الكفيف بطل الفصل الرابع وأنصف ألمه؟ ما أشعر به الآن هل هو وقع السطور الجديدة أم وقع الموسيقى الجديدة التي دخلت الروح، أم وقع روحي المتعبة والراغبة في بعض الهروب؟

https://soundcloud.com/arsene-lupin-v/cest-un-rital-michele-bernard-france-europe

 

ماذا يحدث؟ هل دخلت إلى عالم سحري في نهار جديد من نهارات يناير الباردة؟ كيف لي بكل تلك المتعة؟ كيف تركتني ابنتي تلك الساعات وتستغرق هي الأخرى في لوحات لا تدل على شيء سوى رغبتها في ركوب طائرة سبقتها إليها جدتها القريبة من نفسها منذ أيام سابقة.

 

أتذكر ما قاله محمود درويش: “ترى هل يحق لمثلك أن يتأمل لوحة؟
وأن يتساءل عن مصدر الله؟
أو يجد الفرق بين الحمام ومنديل أم تودع؟

 

شغلتني رغبة أخرى، هي أنني أريد أن أكتب ما أتخيله أثناء القراءة، وأن أضم الشخصيات التي تداعب خيالي أحيانًا وأنا أتذكرهم خلال عملي، وأسأل نفسي عنهم، أين هم الآن من الدنيا وأنا أجلس في تلك اللحظة؟ ألا يأتون معي في تلك الرحلة المفاجئة لروحي في صالة منزلي؟ أريد أن أشهدهم للحظة على شجاعة الأبطال وبكائهم وحيواتهم الغريبة وحيرتهم التي تلوح في أفق رواية لم تأخذ حقها بعد.

 

أستقبل هاتفًا من أمي تخبرني ألا أعد غداءً اليوم، فهي تعيش في مكان قريب من بيتي، وستطهو هي اليوم وتحضر الطعام لي ولابنتي. أسرح قليلاً خلال المكالمة الهاتفية التي تتآمر هي الأخرى على انهماكي فيما أقوم به، ثم أخبر والدتي بمحبة ودهشة -أنا فقط من يعرف سببهما- أنني موافقة وفي انتظارها. وأردد بداخلي أنا في انتظار ما يأتي به الكون اليوم وأمتن له.. كل ما يأتي به الكون وإن لم أفهم عطيته أو منعه، أنا هنا وكلي شغف وإنصات.

 

أتوقف أمام جملة من الرواية تقول: “هل يمكن أن تولد قصة حب في زيارة للمنسيين الذين رحلوا؟ قفز السؤال في خاطري، بينما كنت أحدق شاردًا أصيص يحوي صبارًا مُهملاً يعلوه التراب”.

 

أنهض لأجرب اختراعًا أشربه خطر في بالي كما لو أن هناك من يصب في عقلي كل ما هو جديد تجاه الحياة الآن. أضع القليل من الشوكولاتة في الفنجان وأضع ملعقة من النسكافيه معه وبعض الماء المغلي، وأترك اللبن ليسخن كما يليق برغبة مُلحَّة في نجاح شيء ما لم يكتمل، بعد الكثير والكثير من الفشل. أضيف اللبن الساخن على المزيج الغريب الذي قمت بعمله ولا أضع السكر وأحمله إلى طاولتي وأجلس لأكمل ما أفعل، وأنا أسترق النظر إلى ابنتي كلما استطعت، لأرقبها ماذا تفعل وأعود إلى عالمي.

 

https://soundcloud.com/secretgardenfan/night-train-to-lisbon-sound

 

أخبر نفسي أنني أريد الانتهاء من الرواية في غضون ساعتين ليس أكثر، وأعود إلى الانتباه، كيف ذلك وقد كنت أنهي الرواية في أسبوعين أو أكثر؟! حتى يلموني أصدقائي المقربين صارخين “هتعرفي تفتكري إزاي يا شيخة أحداثها في كل الوقت ده؟!”.

 

ثمة شيء ما هنا على مقربة من روحي، ليته يظل، هل هو شغف بالحالة، أم بالسطور أو أمل فيما سيأتي به العمل، أم رفض للأيام التي لا تثمر إلا الإنهاك والوقوف في نفس المكان؟ وإن كنت في أعين البعض محاربة في جبهات كثيرة، لكن هناك جبهة تخصني أبحث عنها، أو حتى لا أبحث والأيام تلهيني عنها وعن افتقادها، المهم أن عالمي في المربع الصغير الذي أجلس فيه الآن يروقني، يمنحني هدوءًا خالصًا أحببت أن أوثقه وأرصده.

 

هي زيارة لروحي من قِبل حبر بعيد كتب الحروف ورحل، ولم يعلم أن هناك سيدة جالسة الآن مسَّها شغف الشوق فذابت.

المقالة السابقةكيف تتجاوز القصة التي هزمتك؟
المقالة القادمةما هو الحب الحقيقي؟
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا