اللهم لا تحولني إلى “نهى”

491

يتعرض جيل الأمهات الحالي إلى ظاهرة كونية غريبة تسمّى “ماميز”، هذه الظاهرة تدعو إلى أن يسعى الأهل إلى إدخال أطفالهم مدارس دولية باهظة المصاريف، كي يستطيعون التحدث الـ”إنجليش لانجويدج” بإتقان، وأن يكون الأطفال متفوقين رياضيًا في لعبة واحدة فأكثر، ولديهم حس فنّي سواء كان رسمًا أو موسيقى، بالإضافة بالطبع إلى الأكل الصحي ورجم من يتهاون في ذلك.

 

هذه الـ”مامي” جسدتها هيدي كرم في دور “نهى” بمسلسل “سابع جار” الذي يُعرض حاليًا، علمت “نهى” منذ اللحظة الأولى أنها يجب أن تكون هذه المامي، فتركت عملها وتفرغت لأطفالها 24 ساعة، لا تركز في أمر إلا أطفالها، وشكلهم الاجتماعي، فتضغط على زوجها دون أن تدري كي يُدخلهم المدرسة التي تريدها، دون أن تدرك حدود وضعهم المالي الحقيقي، وتهمله من أجل توفير البيئة التي تعتقد أنها مثالية للأطفال، وتضغط على الأطفال كي يحققوا الصورة التي تريدها، وتضع نفسها في إطار اجتماعي لا تريد الحياد عنه.

 

في سبيل تحقيق هذا الأمر، تُقصي نهى الأب عن حياة أولادها، فهو أبدًا لن ينجز الأمور بالطريقة المثالية التي تريدها، ولا تحاول الإثناء أبدًا على أي فعل أو مبادرة يقوم بها في المنزل أو تجاه الأولاد، فكل ما تفعله هو الانتقاد الدائم، لا تحاول شده إلى عالمها، ولا يوجد لديها سوى التحدث بحِدة والاستنكار على طول الخط، بينما تبدو شديدة اللطف عندما تتعامل جيرانها.

 

لا أريد أن أبدو متحاملة على “نهى”، فهي في النهاية نتاج لمتطلبات العصر، لا تريد أن تكون متخلفة عنه، فأصبحت امرأة عصابية، لا تستطيع الاسترخاء أبدًا، بالتأكيد من داخلها هي تريد الاسترخاء مثل الجميع، ولكنها ببساطة لا تستطيع فعل ذلك، ستشعر أنها أم مقصّرة بحق أبنائها، مما يجعلها امرأة متحفزة طوال الوقت، وتحولت من فتاة لطيفة، إلى زوجة لا تستطيع التقدير.

 

يرى الكثيرون أن “نهى” زوجة وأم طبيعية، وأن “طارق” زوجها هو من يجب أن يُلام، فهو مثل كل الرجال المصريين، لا يستطيع استيعاب وتفهم زوجته، لا يقوم بأي أمر على وجه صحيح، ولا يساعدها في مهام المنزل والأبناء. فهل أرى أنا أن “طارق” زوج مثالي؟ بالطبع لا، فأنا مع هذا الرأي، أن “طارق” زوج غير مسؤول، لم يحاول التقرب من شخصية “نهى”، وهو نفسه لم يستطع استيعاب التغير الطبيعي الذي حدث من تحوله من شاب أعزب إلى زوج وأب لطفلين. فاختار “طارق” أن يكون زوجًا سلبيًا، منصاعًا لزوجته، حتى أن رفضه أو مناقشاته معها تكون ناعمة جاهزة للانسحاب.

 

هذه الحياة التي يعيشها هذين الزوجين، تضع حاجزًا كبيرًا بينهما كما ظهر في المسلسل، فسواء كان الزوج يرى أن الطريق الأسلم هو تكبير الدماغ أو المواجهة والانتقاد المقابل لانتقاد وأفعال زوجته، فإن هذه الحياة لا تُطاق، ولا يمكن أن تستوي إلا إذا كان الزوجان يفكران بنفس الطريقة، وهو أمر نادر الحدوث، فالضغوط الموضوعة على الأم، لا توضع على الأب ولا تظهر له، وتفاعل المرأة مع هذه الضغوط والتحديات يختلف عن تفاعل الرجل، وبنظرة بسيطة لاجتماع أولياء الأمور في المدارس، نادرًا ما سنرى وجود أي أب، بل كل الحضور أمهات، مما يُبعد الأب عن الصورة الكاملة للمجتمع، ويجعله متلقيًا فقط للمعلومات من زوجته.

 

مأساة جيل الأمهات الحالي، أننا وقعنا تحت ضغط شديد، وأصبحنا مطالبات طوال الوقت بأن نكون سوبر في كل شيء، أن نرسم لأطفالنا حياة ومستقبلاً مثاليًا بلا أخطاء، فنتج عنه أن الكثير من الأمهات أصبحن مطالبات بما يفوق تحمل الآدميين، فتحوّلنا دون قصد منا إلى أشخاص آخرين، أكثر عصبية، وغير قادرات على تحمل الأخطاء البسيطة.

 

الأصعب، هو أن الأم التي لا تستطيع أن تؤدي هذا الدور الذي فرضه عليها العصر والمجتمع، مضطرة إلى الادعاء والافتعال، حتى لا تصبح متخلفة عن باقي الماميز، فتظهر بمظهر هزلي، تحشر الكلمات الإنجليزية بالغصب وسط حديثها، وتنطق الكلمات بطريقة خاطئة، مما لا يرحمها من سخرية الآخرين، وإن ظلت كما هي تتكلم بالطريقة التي تعودت عليها طوال حياتها، فستكون واقعة أيضًا تحت ساطور العنصرية.

 

مشهدان أساسيان لفتا نظري لـ”نهى”، الأول عندما كانت في النادي أثناء تمرين الابن، وحديثها مع باقي الماميز، التي تنتقد كل منهن الأخرى بأريحية شديدة، فكل منهن لديها من الحكمة الكونية ما يكفيها كي تنتقد من أدخلت أطفالها مدارس ناشيونال عادية، بينما الأخرى تنتقد من أدخلت الإنترناشيونال لأن الأطفال لا يتعلمون بشكل جيد، والثالثة تستغرب من تشترك لابنها في لعبة رياضية واحدة ولا تصرف الآلاف حتى تجد لابنها الرياضة الملائمة له، بينما الأخيرة تنصح صديقتها بطريقة آمرة بأن تتوقف عن استعمال الشامبو للأولاد لما يسببه من ضرر، فتتحول هذه لانتقاد من تأكل في المطعم لمرة واحدة منذ فترة طويلة، مفضّلة المكرونة والفراخ البانيه منزلية الصنع. المشهد السابق بكل ضغطه على الأعصاب والتفكير، هو ما أدى للمشهد التالي، حين شعرت “نهى” بالعار وأرادت التنكر من السيدة التي ذهبت معها للنادي، لأنها تقول كتّافات بدلاً من floaters بصوت عالٍ، ياللفضيحة!

 

هذه الطريقة في المعيشة، تضع حدودًا طبقية وعنصرية، وتجعلنا جميعًا نتصنع شخصيات ليست حقيقية، حتى تتلبسنا تمامًا ولا نستطيع الفكاك منها، المطلوب منا طوال الوقت أن نلهث في مشوار الحياة، محاولين اللحاق بركب الأوائل في كل المجالات، متناسين أنه لا يمكن للجميع أن يكونوا الأوائل.

 

لا أدّعي هنا أنني منزهة عن كل ما أتهم به “نهى”، على العكس، عندما راقبت تصرفاتها، وجدت بعض الصفات التي كرهتها فيها بداخلي، وأتصرف أحيانًا بنفس طريقتها، وهو ما أرعبني بحق. فحقيقة الأمر أنه مهما قيل وكُتب من مقالات وبوستات على فيسبوك، سنظل معتقدين أننا بعيدون عن هذه المنطقة، حتى نراها مجسّمة أمامنا، ونتفكر فيها، ونرى أنفسنا في مرآة غير التي اعتدنا رؤية أنفسنا فيها، لذا أنا أدعو الله ألا أتحول بمرور الوقت إلى “نهى” أخرى دون أن أشعر، فأفقد نفسي الحقيقية، وأفقد رابطي الذي أحاول بناءه مع ابنتي، وأحمّلها مسؤوليات أكبر من سنوات عمرها القليلة، وأضغط على زوجي حتى نصبح غريبين في منزل واحد.

 

 

المقالة السابقةما لم تخبرني به صديقتي عن علاقات المسافات البعيدة
المقالة القادمةأمنيات العام الجديد

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا