اضطرابات الأكل.. هل يشبع الطعام جوعنا إلى الحب؟

1768

هل يقتصر دور الأكل في حياتنا على سد الجوع وتسديد الاحتياجات الفسيولوجية لأجسامنا؟ إذا تأملنا حياتنا فسنجد أن دور الطعام فيها أكبر من ذلك. فنحن نتجمع حوله في مناسباتنا ونعبر به عن حبنا لمن نحب. كما أن بعضنا -للأسف- يستخدمه لسد جوعنا إلى الحب والسيطرة، وهنا يتحول الأكل إلى عدو يسيطر علينا ويدمر حياتنا. فهناك ما يسمى باضطرابات الأكل، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: 

 

الأنوركسيا: تشكل النساء النسبة الأكبر من المصابين بهذا الاضطراب. تخاف المصابة بشدة من البدانة، وتعتقد أنها بدينة رغم أن وزنها أقل من الطبيعي. وليقال عليها إنها مصابة بالأنوركسيا يجب أن يقل وزنها عن الطبيعي بنسبة 15%، وأن تتوقف الدورة الشهرية لثلاثة أشهر متتالية على الأقل بسبب اضطرابات هرمونية. في الأنوركسيا، تمتنع المصابة عن الأكل لفقد السعرات، أو تمر بنوبات من النهم ثم إجراءات لفقد السعرات، كالتقيؤ، واتباع الأنظمة الغذائية الصارمة… إلخ، ولكنهن يفقدن وزنًا أكبر مما يكتسبن، فتقل أوزانهن بشكل ملحوظ. 

 

* ملحوظة: يمكن معرفة الوزن الطبيعي من خلال مؤشر كتلة الجسم BMI، وهو ناتج قسمة الوزن بالكيلوجرامات على مربع الطول بالأمتار، ويتراوح الوزن المثالي لكتلة الجسم ما بين 18,5 و24,9. ويلاحظ أن هذا المؤشر خاص بالبالغين. 

 

البوليميا: تتشابه مع الأنوركسيا في نوبات النهم التي تليها إجراءات فقد السعرات، ولكن تبقى المصابة على وزنها المعتاد. ولذا يصعب اكتشاف هؤلاء المصابات إلا من خلال مشكلات صحية أخرى، كالتهابات الحلق، وانتفاخ الوجه، ونزيف المريء، والفشل الكلوي، وتآكل مينا الأسنان. تشيع كذلك لدى مصابات البوليميا سلوكيات إيذاء الجسد لإدمان الأدرينالين الذي يفرز بعد تلك السلوكيات. كما يعد التدخين وإدمان المخدرات أكثر شيوعًا بينها.

 

إدمان الأكل: تعاني المصابة من زيادة ملحوظة في الوزن، نتيجة للإفراط في الطعام واستخدامه للتعامل مع المشاعر السلبية. 

هذا من الناحية الفسيولوجية، أما من الناحية النفسية فنجد أن المصابات باضطرابات الطعام تشتركن في بعض الصفات التي تظهر لديهن بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة. فنجد أنهن مهتمات بشكل مبالغ فيه بالأكل الصحي، وتعتبرن الوزن المثالي هدفًا تبغين الوصول إليه بأي طريقة، ومكونًا أساسيًا لصورتهن الذاتية. ويعتبرن الجوع وسيلة للشعور بالتفوق النفسي والأخلاقي. كما نجد لديهن هوسًا بتحقيق الكمال في كل مناحي الحياة. ولأنه هدف مستحيل، فمن الطبيعي أن تصاحبه مشاعر الذنب وكراهية النفس. كما يشتركن في استخدام الطعام (بالامتناع عنه أو الإفراط فيه)  للهروب من المشاعر التي لا تستطعن التعبير عنها والتعامل معها بطريقة صحية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنهن تعانين من مشكلات في العلاقات بسبب تعليقات الناس على أجسادهن وعاداتهن الغذائية غير الطبيعية التي تتسبب في عزلهن عن الناس.

 

وترجع أسباب الإصابة باضطرابات الأكل بشكل أساسي إلى مشكلات في التنشئة، مثل:

– حالات الإدمان في الأسرة: والإدمان كما يشمل المخدرات فإنه يمتد إلى العمل والعلاقات والتليفزيون… إلخ. ويتسبب الإدمان في الغياب العاطفي للوالدين من حياة الطفل، فتصل إليه رسالة أنه سيئ. هذه الرسالة قد تظل الهاجس المستمر لدى المصابة باضطرابات الطعام، مما يدفعها إلى محاولة إثبات عكس تلك الرسالة عن طريق التحكم في الأكل والقوام. 

 

– السيطرة:  فالبيت له قواعد صارمة لا يمكن الخروج عنها، والوالدان يقومان باتخاذ كل القرارات دون أن يسمح للطفلة بالاختيار حتى في أبسط الأشياء، كاختيار الملابس والألعاب والطعام. 

 

– هوس الكمال: تسير الأسرة بمبدأ “الكل أو لا شيء” لذا لا تقبل من الأبناء أقل من 100% في كل مجالات حياتهم، وتجعلهم عرضة للنقد القاسي إن قلوا عن هذا المستوى، كما تجعل قبولهم مشروطًا بهذا الهدف المستحيل. 

 

– التقلب المفاجئ: إن أي إساءة (لفظية أو بدنية أو جنسية) يمكن أن تحدث في أي وقت، لأن ردات الأفعال لأي فرد في الأسرة مرتبطة بحالته المزاجية. ولذلك لا يستطيع الطفل الشعور بالأمان حتى في أوقات الوئام، لأنها يمكن أن تنقلب إلى النقيض فجأة، مما يدفع الطفل إلى محاولة تحقيق الاستقرار من خلال السيطرة على أي شيء في حياته كالأكل.

 

– عدم احترام المشاعر: عن طريق الاستجابة لتعبير الطفل عن مشاعره بالتعنيف أو التجاهل، أو عن طريق التعبير عن المشاعر بصورة غير سوية تجعل الطفل ينفر منها معتقدًا أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر، فيتعلم كبت مشاعره بدلاً من مشاركتها والتعبير عنها.

 

– غياب التواصل بين الوالدين والأبناء: حيث يتمثل في الأوامر والنواهي، ويدور حول الأمور السطحية، مع إهمال المشاعر والاحتياجات. 

 

– اختلال الحدود: فإما الجفاء التام وإما التداخل المبالغ فيه، مما يضعف التواصل ويقضي على الخصوصية. 

 

– الجوع إلى الحب: قد يكون الوالدان محبين لأبنائهما، وربما يظهر ذلك في التضحية من أجلهم والرغبة في مصلحتهم، ولكن هذا غير كافٍ. فالمهم أن يصل الحب إلى الأبناء بالطريقة التي يفهمونها كالتشجيع، وتخصيص وقت للأبناء، والهدايا، والأحضان، والقبلات… إلخ.

 

– التعرض للإساءات الجنسية: وجدت دراسة أن 50% من المصابات بالأنوركسيا والبوليميا تعرضن للإساءات الجنسية، مما قد يدفع المريضة إلى معاقبة جسدها -من خلال منعه عن الأكل مثلاً- لأنه السبب في تعرضها للإساءة، أو محاولة استعادة السيطرة على جسمها الذي خضع للآخرين من خلال السيطرة على الطعام، أو قد تكون المريضة غير قادرة على التعبير بطريقة صحية عن غضبها من جنس الرجال، فتقوم بتوجيه هذا الغضب نحو النفس من خلال اضطرابات الأكل. 

 

ليس الهدف من ذكر أسباب الإصابة باضطرابات الطعام هو إلقاء اللوم على الغير، فهؤلاء المسيؤون قد تعرضوا هم أنفسهم لإساءات، ولكنهم لم يتعافوا منها. ولذلك تظل الأمراض والاضطرابات تنتقل من جيل إلى جيل. وحتى يتوقف ذلك، لا بد أن يقرر جيل تحمل مسؤولية التعافي، الذي لن يكون إلا بالوعي ومواجهة الألم، فيورث للأجيال القادمة الصحة أكثر مما يورثهم المرض. 

 

فكيف يحدث التعافي من اضطرابات الأكل؟

لا غنى عن التدخل النفسي باعتبار الجانب النفسي عاملاً أساسيًا في المشكلة، ولذلك فإن إهماله والتعامل مع الاضطراب بوصفه مشكلة في الأكل فقط، يؤدي إلى فشل العلاج، مما يصيب المريضة بالإحباط ويدفعها إلى الارتماء في أحضان الاضطراب بصورة أقوى. ويمكن أن يحدث ذلك من خلال العلاج المعرفي الذي يعمل على تصحيح المعتقدات، والعلاج السلوكي الذي يركز على تعليم المريضة سلوكيات صحية بديلة. هناك أيضًا العلاج الأسري الذي يهدف إلى تعديل أساليب التعامل بين أفراد الأسرة، والعلاج الجمعي الذي يقوم على المشاركة في مجموعات المساندة لكسر الإنكار والعزلة. وربما تكون أصعب خطوة في العلاج هي الإقدام على طلب المساعدة، المهم أن يكون الشخص مناسبًا حتى لا تتحول المساعدة إلى إساءة.

 

وربما يساعد المريضة على التغيير أن تجرد المكاسب والخسائر لكل من السلوك المضطرب والتوقف عنه. ومن الخطوط التي سيدفع العلاج في اتجاهها هي بناء علاقة بالله تقوم على الحب وإدراك أن الله يقبلنا رغم ذنوبنا ويغفر لنا، وأن الدين يحترم الجسد ويأمرنا أن نعطيه حقه، ويبيح لنا التلذذ بشهوات الجسد في حدود الحلال والاعتدال. وكذلك إقامة علاقات صحية تقوم على الاحترام والقبول والغفران. 

 

أما الشق الآخر للعلاج فهو العلاج في مستشفى لزيادة وزن المريضة المصابة بالأنوركسيا، حيث قد يؤدي سوء التغذية إلى الاكتئاب. وعندما تتحسن الحالة الجسدية يجب أن تخضع المريضة للعلاج النفسي. وبالنسبة إلى صاحبات الوزن الزائد، فهناك التدخل الجراحي ولكن يجب عدم اللجوء إلى هذا الحل إلا في أضيق الحدود، وبشروط معينة، كزيادة مؤشر كتلة الجسم BMI عن 40 أو الإصابة بمرض يتأثر بالبدانة، وأن تتعلم المريضة الحياة بنمط صحي حتى لا تضيع جدوى العملية.  

 

إن الأكل ضرورة في الحياة وأحد متعها، بشرط ألا نستخدمه في غير ما خلقه الله له. الأكل قد يمنحنا القوة الجسدية، قد يمنحنا الصحة، ولكنه أبدًا لا يعوضنا عما نفتقده من حب وثقة وأمان. 

 

المصدر: كتاب “الأكل عدو أم صديق” د. أوسم وصفي، أوفير للنشر.

 

المقالة السابقةزرقا بس تقاطيعها مسمسمة
المقالة القادمةسميحة عبد القادر النشاشجي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا