أن نحكي ونشارك ونفضفض للآخرين لهو فعل حميمي وضروري وإنساني، من شأنه أن يُخفف عنا الضغوط وأن يمنحنا زوايا جديدة للرؤية والحُكم على الأمور، فإن لم نجد حلاً على الأقل لن نموت همًّا. ولمَّا كان الحَكي على أهميته القصوى صعبًا لأنه يُعَرِّينا أمام الآخر، صار من الحَتمي الترَوِّي عند اختيار دائرتنا الآمنة التي نستطيع أمام أفرادها أن نَخلع عن أنفسنا كل الأقنعة التي نحتمي خلفها، ونُظهِر هشاشة الروح.
الغريب أنه رغم حساسية الوضع فإن عادةً ما تكون تلك الدائرة الآمنة خارج نطاق الأهل، إذ يلجأ الراغبون في الحكي للأصدقاء، الأطباء النفسيين، الجروب ثيرابي، بل وأحيانًا للغرباء، في حين قليلاً جدًا ما يلجؤون لذويهم، تُرى ما الذي يجعلهم يرفضون أن يكون الأهل هم الملاذ والمُشتَكَى؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال استعراض 10 أخطاء إذا وقع بها الأهل، خسروا فرصة صداقة أبنائهم:
1- إفشاء السر: كلمة سر بتضحكك؟
بعض الأهل يعجزون عن الاحتفاظ بالسر، فإذا قيل السر للأم فقط تجدها تُخبر الأب علنًا أو بالخفاء والعَكس، وكُلما كان الابن صغيرًا صار السر أكثر مشاعًا وقُدرة على الانتشار، للخالة والجدة والجيران والأصدقاء. لا يفعل الأهالي ذلك بغرض الفتنة بالضرورة، بقدر ما يفعلونه للتفاخر أو التَنَدُّر، أو حتى للبحث عن حلول. وبالرغم من أن أسرار الأطفال عادةً ما تكون عاديةً جدًا ولا تستحق إبقاءها بالخفاء، فإن الأهل حين يفعلون ذلك يزرعون بطفلهم أول بذرة شك في كون أمه أو أبيه أهلاً للائتمان مُستقبلاً.
2- النصائح الإجبارية: أتحسب أنك جرم صغير؟ أيوة أنت جرم صغير، إيش عرَّفك إنت؟!
أيًا كان عمر الأبناء فهم بنظر ذويهم صغار، خبرتهم مهما كبرت محدودة، حتى لو صاروا هم أنفسهم آباءً وأمهات، وهو ما يجعل الأهل لا يكتفون بالاستماع لأولادهم وتَفَهُّم مشكلاتهم، أو استيعاب تهورهم، بل يُصِرون على مَنحهم نصائح لا يهم إن كانت تتناسب مع تفكير أولادهم ونمط حياتهم، بقَدر ما هي مُقنعة من وجهة نظر الكبار.
3- وجوب الطاعة: لكنه لم يكن يعلم أنها بداية اللعنة
المشكلة ليست بتقديم النصيحة بالطبع، بقدر ما هي في إصرار الأهل على أن يُقابلها أولادهم بالسَمع والطاعة، وإلا التهديد والوعيد بكشف السر، أو العقاب، أو الخصام و”القَمص”، وفي ألطف الأحوال شيل الهَم وممارسة كل طقوس “الحِزن”، مع إشعار الأبناء بخيبة الأمل فيهم.
4- العقاب هو الحل: ودول بنعاقبهم عشان حاولوا يهربوا ولا عشان فشلوا؟
أحيانًا لا يكون عقاب الأهل بسبب عدم إذعان الابن للقرارات التي تتبع البَوح بالسر، لكن بسبب تفاصيل السر نفسه، خصوصًا إذا كان بنظر الأهل خطأً لا يُغتَفر، غافلين أن دورهم الحقيقي حماية أولادهم من شرور العالم وقبولهم بشكل غير مشروط مهما حدث.
5- اللعب من تحت الترابيزة: أنا وأخويا على ابن عمي
بعض الأهالي يملكون من الذكاء ما يجعلهم يرفضون الصدام مع الأبناء، خوفًا من توقفهم عن إخبارهم بما يفعلون، فيلجؤون بالخفاء لأفراد أخرى من الأسرة أقرب للأبناء، أو لأصدقاء أولادهم، من أجل توجيههم أو السيطرة عليهم بشكل غير مباشر، وبقَدر النية الطيبة التي قد تكون وراء هذا التَصَرُّف، إلا أنه حين ينكشف (وهو دائمًا ما ينكشف) يصبح الأمر قبيحًا ومُخزيًا.
6- الابتزاز: طيب مَرَات العمدة حاولت تُهرُب
نعم، هناك من الأهل مَن يبتزون أولادهم مقابل عدم إفشاء السر، رُبما كان ذلك السلوك ليس شائعًا، لكنه يحدث في بعض الحالات، ولا أقصد هنا الابتزاز المادي بالطبع، لكن النفسي والعاطفي، وهو ما قد ينتج عنه شخصية ضعيفة ومهزوزة أو حانقة، تنتظر الفرصة المناسبة للانفجار.
7- المعايرة: يا فاشل يا فاشل
الأهالي لا ينسون زَلاَّت أولادهم، ومع كل خطأ جديد يرتكبونه، يُخرجون لهم “الكراسة الصفرا” المُتَخَّمة بالأسرار القديمة مصحوبة بــ”سطر الجلاليب من جوة”، ليُعايرونهم بخيباتهم المُسبقة مرَّات بهدف “نحررة الأبناء” والضغط عليهم للخروج من “الكومفرت زون” واتخاذ خطوات عملية لتحسين نمط حياتهم، وأخرى لفَش الغِل وحرقة الدم، ما دام كده كده مفيش سمعان كلام.
8- الديكتاتورية: الاختلاف في الرأي يفسد للود كل قضية
نحن مجتمع غير مؤهل للديموقراطية، هذه حقيقة.. كيف لا والكبار يقفون بالمرصاد أمام اختلاف أولادهم، اختلاف أحلامهم، ميولهم، أولوياتهم، وخطواتهم في الحياة؟ رافضين أي خطوة يخطونها لمجرد أنهم غير مُقتنعين بها أو بجدواها، وهو ما يدفع الأبناء غالبًا للإخفاء تجنُّبًا للصدام ووجع الدماغ، أو هروبًا من المناقشات السفسطائية الفارغة.
9- وجع القلب: قلبي على ولدي انفطر
أن تقص سرًا لوالديك مُتَعَلِّقًا بمشكلة عويصة تمر بها، سواء بالعمل أو العلاقات فإنهم وإن لم يتخذوا موقفًا ضدك، ستظل دائم الاستجواب ولو للاطمئنان عليك، وعادةً ما يأتي ذلك مصحوبًا بالكثير من الإلحاح والصعبانيات، التي تجعلك تندم على كونك أخبرتهم من الأساس.
10- عدم النسيان: أدعي على ابني وأكره اللي يقول آمين
بعض الأسرار لا يكون أبطالها الأبناء فحسب، بل يتضمَّن الأمر أشخاصًا آخرين، كالأصدقاء أو الأزواج، وحين يكون الابن هو الطرف المظلوم هنا، يعجز الأهل عن الغفران لهؤلاء مَن تسببوا بالألم لأولادهم، وحتى إن غفروا فإنهم لا ينسون، بالرغم من أن الأبناء أنفسهم قد يتجاوزون الأمر مع الوقت، وهو ما يخلق “حزازيات” في التعامل بين الأهل ومَن خذلوا أولادهم يومًا.
..
بالطبع هناك من الأهالي مَن لا يفعلون أيًا مما سبق، وعلاقتهم بأولادهم عظيمة ودافئة، وهناك آخرون لا يفعلون ذلك، ورغم هذا يلجأ أولادهم لدائرة آمنة خارجية، مُفضِّلين وضع حدود وضوابط بالعلاقات الأسرية تَقيهم مشكلات لا داعٍ لها. لكن الحديث هنا يخُص الأهل الذين يفعلون كل ما سبق أو بعضًا منه.
ولهؤلاء هناك خبران:
الخبر السيئ: أن حُسن النية لا يغفر لهم خطاياهم، وعدم الإدراك لا ينفي تهمة عدم القدرة على الاحتواء والتواصل، وحقيقة أن أفعالهم هي التي أبعدت أولادهم عنهم أميالاً، ودفعتهم للبحث عن آخرين آمنوا بهم، وبأحقيتهم في الاختلاف مانحيهم المجال الكافي للتحرر من النمطية.
أما الخبر الجيد: فأنه ما دام بالروح نَفَس فالوقت لم يفُت، وما زال هناك مجال للإصلاح، إن لم يكن بمعالجة ما تهدَّم وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، فبالاعتذار عن سجل حافل بالخذلان، وإن كان الاعتذار لا يضمن إعادة بناء جدار الثقة، لكنه على الأقل يكفي لإزالة غصات القلب -إن وُجِدَت- وإعادة إعمار الروح بالمودة والقبول.