على مشارف عيد الأم ترن في أذنيّ كل نصائح أبلة هدى وتحذيرات أبلة نجوى وكل مدرسات الابتدائي، من وجوب تكريم الأم والاحتفاء بها وسمعان الكلام في المطلق، لأن الأم “اللي تعبت وربت وأكلت وحمّت وذاكرت و… و…”.
ترن في أذني كل كلمات الأمهات عن تعبهن وسهرهن وقصمة ظهورهن.. ترنّ في أذني محفزات الشعور بالذنب والحض على التباكي غير المبرر في نظري (وقتها)، وتساؤلاتي التي لم أصارح أحدًا بها خوفًا من اتهامات الأنانية ونكران الجميل وما شابه، تساؤلاتي حول “ما كان ممكن ناكل دليفري ووفروا علينا عد الجمايل ده!”.
تعاد كل تلك المحاذير والتحذيرات هذا العام وأنا أم.. أم لأول مرة.. أول عيد أم يتبدل فيه دوري من ابنة لأم، مرحى.. حصلت على دور البطولة إذن! ما الجديد في الأمر؟! أنا الآن أطبخ وأغسل بشكل شبه يومي، وأسهر فقط لأن طفلتي قررت لي ذلك، وأنام بعين مفتوحة، وأتمزق بين التنفيض واحتياجات السوق وتنظيم الرضعات وتغيير الحفاضات.. تلك أمور إن فعلتها لا أشعر بأي إنجاز، وإن تقاعصت عنها أو تولاها زوجي لا يوخزني التقصير ولا يتأجج شعور الذنب.
أين البطولة إذن؟ أين كاميرات التصوير والألقاب المنهالة من كل صوب والأم المثالية وبلا بلا بلا؟
الحقيقة إن حدث وأتت التكريمات بهذا النحو فسأشعر بأن كل شيء “فشنك” و”يا خسارة نصايح أبلة هدى وأبلة ونجوى اللي اتضحك عليّ بيها” سأشعر أني أكرم لكوني قمت بدور عامل الدليفري بشكل ممتاز دون تذمُّر.. أو بالأحرى لا أشعر وبالتالي لا أتذمر.
فلا أجد أي قيمة في كوني أقصم ظهري على الطبيخ والغسيل وأعمال يمكنني شراءها دليفري.
تعرفي على: اجمل هدايا للأم بمناسبة الولادة
وإنما أشعر بقيمة أمومتي وأنا أنتشر بين المواقع وصفحات الكتب باحثة عن طرق لتنمية مهارات طفلتي، أشعر بقيمة أمومتي وأنا أؤلف أغاني بكلمات تهدئ أعصاب ابنتي، وأنا أربي نفسي من الآن وأغير لغتي حتى إن كبرت ابنتي وتعلمت الكلام أجدها تتحدث بما كنت أحب أن أتحدث به في صغري، أشعر بقيمة نفسي وأمومتي وأنا أجاهد في عملي وأنسحق بين طواحين الوقت والمسؤوليات وأعافر، لتجد طفلتي أمًا تتشرف بها، لتجلس بين أصدقائها وتقرأ لهم مقالاتي عنها ورسائلي لها وهي جنين، وتريهم أعمالي اليدوية لها المغزولة بحب مضفّر.
وأشعر بالتقصير الحقيقي لما أتوقف عن القراءة بعض الوقت في التربية، لما آتي طفلتي بلعبة عديمة الفائدة أو غير محفِّزة لمهاراتها.. لما أقتصد في بيئة الألوان المحيطة بها أو أحرمها فترة من سماع أغانيّ وحواديتي.
منذ عام لما عرفت بحملي بدأت ألاحظ الأطفال أكثر من ذي قبل، بدأت أنظر لهم بعين مختلفة، بدأت ألاحظ عيوب الشخصية ولا أنقدها وأتذمر، وإنما أنقّب عن أسبابها وأدرب نفسي على تلافيها.
على مشارف أول عيد أم وأنا في دوري الجديد فكرت ماذا أحب أن تهديني ابنتي في عيد الأم، فكرت في أن كل هدايا المطبخ التي كنا نشتريها للأمهات إنما هي تعزز الدور الذي يمكن الاستغناء عنه بالدليفري، فكرت فيّ كعجوز وابنتي شابة عائدة من عملها تسألني “عاوزة إيه ف عيد الأم؟”، كانت الإجابة التي اعتدت سماعها من أمي وأمهات صديقاتي كلها تدور في فلك “عاوزاكي كويسة”، “عاوزة أتطمن عليكي” وربما تكون أم إحدانا أكثر صراحة وتجيب “عاوزاكي تسمعي الكلام”، وبعد ذلك ينتهي الأمر بهدية للمطبخ.
فكرت أني سأجيب ابنتي بأن أخبريني بالجديد في الحياة، ساعديني أن أظل دومًا بمحاذاة عقلك فلا أصبح يومًا “دقة قديمة” تخافي الحديث معي حول أحلامك المجنونة، أسمعيني معك موسيقاكِ المفضلة، وخذيني إلى السينما لأشاهد ما تطورت إليه الأفلام لهذا الجيل، فقط افخري بي لكوني لن أجبرك على فعل شيء، لكوني لن أطالبك بأن “تسمعي الكلام عشان هو كده” لكوني ظللت مساندة لك حتى في قراراتك التي أرفضها. لكوني قدّرت الفرق بين زمنك وزمني قدرما انتبهت لذلك، لكوني حاربت الاكتئاب ومسبباته قدرما استطعت حتى لا أخذل ضحكاتك.. حينها فقط سأشعر بجدوى كوني أمًا.. كوني قدمت أشياء لا تُشترى دليفري.
أعرف وقتها أن الأمر لن ينتهي بهدية للمطبخ، أعرف أن كل ما سنبنيه معًا من نفس وروح وعقل سينهي الأمر باختيار هدية رائعة، ربما ستكون أفضل مما سأفكر فيه.