شارل شابلن.. المبدع الصامت

911

قبعة سوداء وعصا رفيعة، شارب صغير وعينان مستديرتان، جسم نحيل وبدلة غريبة الأطوار.. وبدون كلام.

إبداع أبهج الكثير من البشر لسنين طويلة في تاريخ السينما، حيث يُعَد هذا الفنان أسطورة السينما كما يقولون، فقد أَمضى 75 سنة من حياته يعمل بها.

 

لم يكن فنه مجرد كوميديا وضحكا عادي، لكن حمل في طيات المواقف المضحكة هدفًا ومعنى وقيمة وقيمًا سامية، هو بالفعل مبدع غير عادي.

والمحير جدًا.. كيف استطاع أن يصنع الضحك والبسمة في زمن الحرب العالمية والدمار الشامل، الزمن الذي اشتهر بالقتل والخراب؟ إنه “شارل شابلن”، ذلك الفنان الرائع الذي يستوقفني دائمًا أمامه متأملة، كيف تغلب على الألم والشقاء المعاناة والتعاسة والمرض والفقر والحرمان والصدمات المتكررة وأحيانًا العجز أو قل قلة الحيلة؟!

 

فنرى في حياته الفقد، وأصعب أنواع الفقد فقد الأمان والحنان، حنان الأسرة، حيث انفصل والداه وهو في سن الثالثة، وقامت أمه برعايته هو وأخيه، فقد كانت موهوبة في التمثيل والغناء، وكانت هذه الموهبة مصدر دخلها الوحيد الذي تقتات به هي وطفلاها، ولسوء الحظ أصابها مرض في الحنجرة فعجزت عن الغناء، وأصابها مرض الزهري الذي أدى بها إلى الجنون فوُضِعت في إحدى المصحات العقلية، وبالتالي أودَع شارل شابلن وأخوه بأحد الملاجئ لرعايتهما، مما أثّر في نفسه كثيرًا ذاكرًا ذلك في أحاديثه. وبرغم كل هذه المآسي تمكن شارل شابلن من النجاح والإبداع.

 

ولا عجب.. فهو شخص يفكر من منطلق “لن تجد قوس قزح ما دمت تنظر إلى الأسفل”.

شخص يبحث دائمًا في ليلة المطر المظلمة والعواصف الهائجة على بريق الأمل والرجاء.

شخص شعاره “يوم بدون ضحك هو يوم ضائع”.

شخص أصر أن ينتصر فوق كل المعوقات وقلة الإمكانيات.

 

ذكر ” شارل شابلن” في أحد أحاديثه قائلاً “لا بدّ للمرء أن يكون واثقًا من نفسه.. هذا هو السر.. حتى عندما كنت أعيش في ملجأ الأيتام, وحتى عندما كنت أهيم على وجهي في الشوارع والأزقة باحثًا عن لقمة خبز أملأ بها معدتي الجائعة.. حتى في هذه الظروف القاسية كنت أعتبر نفسي أعظم ممثل في العالم, كنت أشعر بالحماس الشديد يملأ صدري لمجرد أنني أثق في نفسي, ولولا هذه الثقة لكنت قد ذهبت إلى النفايات مع بالوعة الفشل”.

 

الإبداع كان مصدره الثقة بالنفس والإيمان بها والإرادة والإصرار، هذه القوة الخفية الكامنة في داخل إنسانيتنا فقط تنطلق عندما نعطيها الفرصة، من هنا نرى أن الإبداع لا تحده الإمكانيات ولا يقتله الفقر ولا يخيفه الجوع، بل قد يكون كل هذا دافعًا كبيرًا للإصرار على النجاح والوصول.

 

لقد ولد شارل شابلن عام 1889 وتوفي عام 1977، أي عن سن يناهز 88 عامًا، صنع خلالها العديد من الأفلام منذ بدايته في عام 1914، لم يخلُ أي منها من قيمة وهدف ومعانٍ جميلة. كان أول أفلامه فيلم “لقمة عيش”، ثم قام بدور الصعلوك في ثاني أفلامه “سباقات سيارات الأطفال في فينيس”، هذا الدور الذي أكسبه شهرة كبيرة في عالم الفن، وتوالت الأفلام، منها فيلم “الطفل والمتشرد وغاز الضحك”، ومن أبرز أفلامه فيلم الديكتاتور الذي جسد فيه شخصية “هتلر” بصورة ساخرة مضحكة منتقدًا فيها الدكتاتورية، مما عرّضه للكثير من المشكلات التي لاحقته في حياته، وعندما اخترعوا الصوت قي السينما ظل محتفظًا بفلسفته في عمل أفلام صامتة، لإيمانه أنها الطريقة التي يستطيع بها الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين، ويرى أنها طريقة التعبير الأقوى من الكلام، فاستخدم مع التمثيل الصامت الموسيقى التصويرية.

 

لم يكن شارل شابلن مبدعًا وفنانًا فقط، بل أيضًا تميز بفلسفة استطاع التعبير عنها في أقوال مأثورة يرددها الناس حتى الآن منها “لكي تضحك بعمق.. عليك أن تتعلم كيف تتعامل مع أوجاعك الخاصة وتلعب بها”. لقد اختبر الألم والوجع في حياته الخاصة، لم يرثِ نفسه ولم يستسلم لأوجاعه، بل لعب بها واستطاع أن يمزجها بفنه ليخرج منها مواقف إنسانية مؤثرة ومضحكة، كأنه يسخر منها، معلنًا انتصاره عليها، لقد عرف قيمة ما يعمل، كان صانعًا للبسمة ومؤمنًا بها وبقوتها، كان يؤمن أن من يعطي دائمًا يزداد، فقال “الشيء الذي يغني من يأخذونه ويزيد من يعطونه هو الابتسام”. ورغم أن حياته كانت مليئة بالمشكلات والأحداث والأمراض لكنه كان يرى أن لكل مشكلة حلاً، فقال “لا شيء دائم في هذا العالم، ولا حتى مشكلاتنا”.

 

كان شارل شخصًا مرحًا بطبعه لطيفًا وحساسًا، أحبه الملايين حتى العلماء، فيوم قال له أينشتاين “إن أكثر شيء أحبه في فنك أنه فن عالمي؛ يمكن لكل العالم أن يفهمك دون أن تقول كلمة واحدة”، فرد شابلن “هذا صحيح.. لكن شهرتك أعظم.. فكل العالم يحبك.. رغم أنه لا أحد يفهمك”.

 

رحل شارل شابلن في عشية عيد الميلاد سنة 1977 في مدينة فيفي بسويسرا، وشيعت جنازته بحضور أكثر من 20 رئيس دولة، تاركًا لنا رصيدًا من الإبداع الخالد ورصيدًا من الحب في قلوب معجبيه، راسمًا بصمته ابتسامة كبيرة في عالم السينما.

 

المقالة السابقةالكاريكاتير.. فن الضحك المر
المقالة القادمةعاوزة إيه ف عيد الأم؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا