رحلتي مع كورونا: ما دار برأسي ٤٥ يومًا في الحجر الصحي

1298

مرضت.. عانيت.. شُفيت

قد تلخِّص هذه الكلمات رحلة إصابتي بفيروس كورونا. وبإمكاني أيضًا أن أقص التجربة في ليالٍ متواصلة من الحكي عن تفاصيل ٤٥ يوم عزل، قضيتها أصارع فيروسًا بلا “كتالوج”. والطريقتان ستؤديان الغرض. لكن ما يثير فضولي تجاه أي تجربة إنسانية ليس تلك التفاصيل النظرية، رغم أنها تشبع الفضول للمعرفة. ما أتعطش لمعرفته حقًا مشاعر التجربة. احكِ لي ما شئت لكن سيظل ركن أصيل منقوصًا، ما لم تخبرني كيف شعرت وأنت تبحر في رحلتك.

وإن قصصت تجربتي مع كورونا سيكون الشطر الأكبر عن مشاعري التي تأرجحت صمودًا وخفوتًا. لكنني لا أدوِّن تجربتي للتوثيق الشخصي فحسب. وإنما لأن توصيف هذه المشاعر ربما يمد يد العون لمن قد يسوقه قدره لخوض التجربة، كي لا يهلع إن عايشها، وليعلم أنها جزء من التقلبات النفسية المحتمَل مروره بها.

كيف حدثت الإصابة

شملت الأعراض حرارة وآلام بالجسم والأذن وصداع حاد وفقدان للشم والتذوق، مع سعال وجفاف بالحلق وتغيُر في الصوت، وازدياد ضربات القلب واضطرابات بالمعدة مع انخفاض ضغط الدم. وصولاً لنوبات ضيق تنفس مع آلام بالصدر والظهر. لكن التساؤل عن مصدر العدوى في ظل انتشار الڤيروس لا طائل منه. لا أعرف حتى الآن كيف انتقلت لي العدوى بالضبط. فأنا واحدة من الملتزمين بإجراءات الوقاية. لا أغادر منزلي إلا للضرورة. التجمعات العائلية نسيتها.

لكن ببساطة أُصبت. هل أحبطني ذلك؟ قطعًا نعم. ارتبكت فور مطالبة الطبيب لي بالعزل. كاد سؤال “كيف انتقلت لي العدوى؟” يفتك برأسي. لم أكن قانطة ولو للحظة ويشهد ربي. لكني كنت أتعامل مع الأمور بالمقدمات والنتائج. والنتيجة لا تتماشى مع ما سبقها. فتلقيت هنا الدرس الأول من الإصابة.

يفعل الله في ملكه ما يشاء

بعد أن هدأتُ قليلاً استوعبت الدرس الأول من إصابتي بفيروس كورونا. أُصبت لأن الله قدَّر هذا. فإن كانت الأمور تسير وفق تصوراتنا كنا سنتناسى أن الحكمة الإلهية التي تُسيِّر الكون أعمق من رؤيتنا المحدودة، فنغتر بذواتنا. وهدأ قلبي أكثر لأنني أخذت بالأسباب لحماية نفسي وأسرتي، وربما كان ذلك سببًا في أن يكون نصيبي من المرض محتملاً. ربما بلا إجراءات وقائية كنت واجهت نسخة أشرس من الفيروس.. من يعرف؟

ليلة العزل الأولى

تزامنت أول ليالي العزل مع أول أيام عيد الفطر. كان التزامن كلاسيكيًا، فتفاعلت مع الأمر بعاطفية. صحيح بدا مظهري ثابتًا، لكنني كنت في قمة تأثري. بالأمس كنت أملأ العالم ضجيجًا وأنا أجهز لاستقبال العيد. واليوم أنا في صمت مطبق بعد انفلات ما كنت أخطط له من بين يدي في لحظة. موجع ذهاب ترتيبات المرء هباءً. وحكيم أن يضع المرء دومًا هامشًا لاحتمالية تلاشي خططه تجنبًا للانطفاء.

سأقضي العيد في غرفتي إذًا. لن أجلس مع أسرتي لمشاهدة تلك المسرحية التي شاهدناها مرارًا. لن نتبادل آراءنا في مذاق حلوى العيد. لا عيد ببساطة. شعرت بأن بهجة العيد سُرقت مني، وبأني سرقت إحساس أسرتي بالعيد. كنت أضفي نزعة عاطفية على كل شيء، وهكذا دومًا المرء وقت هشاشته، فتؤثر أبسط التفاصيل فيه. كنت في حجر داخل الحجر. من حجر داخل المنزل تجنبًا للإصابة، لحجر داخل غرفتي وأنا مصابة. تقلصت رحابة كل شيء حينها مكانيًا ونفسيًا.

مشاعر ليالي العزل الطويلة

أشعر بالاغتراب عن جدران غرفتي. أود الهروب منها بعدما كنت أهرب إليها من فوضى العالم. غريب شعور الإنسان بالنفور من أشياء أحبها فقط لأنها فُرضت عليه.

كان الجميع يحاول تهوين الموقف عليّ. لكني أعرف تلك الوجوه التي تُبطن عكس ما تُظهر. هل تعرف قاعدة أن المرء يُكثر الحديث عما يفتقده؟ كانت تنطبق على أهلي. يرددون “بسيطة”، لكني كنت أعرف أنهم يحاولون إقناع أنفسهم لا أنا ببساطة الموقف.

الخوف من نقل العدوى لأسرتي يدغدغ رأسي. والخوف على نفسي أيضًا مما تخبئه الأيام. أي عَرَض سيظهر لاحقًا؟ كانت الأعراض تظهر تباعًا، فكنت أنام كل ليلة وأقصى طموحاتي الاستيقاظ دون مطاردة عَرَض جديد.

اختلف الأمر عن أيام الحجر التي يبقى فيها المرء بالمنزل تجنبًا للإصابة، فيتحايل على الوقت بمشاهدة فيلم، أو إعداد وجبة لذيذة، أو مهاتفة الأصدقاء. قوتي ومزاجي لم يسمحا بأي من ذلك. رأسي يؤلمني. وينهكني حلقي. تتزايد دقات قلبي مع أي مجهود كمن يشارك في ماراثون جري. وتتملكني العصبية من تعليمات الطبيب بعدم السماح بتشغيل مروحة أو تكييف.

الفراش صديقي، والعزلة رفيقتي، والوقت لا أدركه إلا كمواقيت لتناول الدواء أو كعداد لأيام العزل. لكن مهلاً.. أنا على فراشي لا فراش مشفى. والعزلة وسيلتي لحماية أحبابي لا عقاب لي.. والوقت أهداه الله لي كفرصة للتعافي لم تسنح لغيري.

التأقلم طاقة سحرية

تأقلمت مع فكرة العزل، بعدما تيقنت أنها ستكون ضيفي الثقيل. صار لي روتيني. تناول فطور كالبيض المسلوق والجبن وحبات التمر. الإكثار من الخضراوات والفاكهة. قياس درجة الحرارة صباحًا ومساءً. قياس الضغط ونسبة الأكسجين في الدم. تدوين النتائج. تناول الفيتامينات والأدوية. التعرض للشمس بينما أراقب تلك اليمامة التي تشرب من طبق المياه الذي وضعته أمي على السور. كانت جزئي الترفيهي في اليوم على أي حال.

استنشاق الزيوت الطبيعية لتنشيط الأعصاب الشمية. الحديث مع المقربين عبر تطبيقات المحادثة إن استطعت. استبدال ملابسي وغطاء الفراش والمناشف دوريًا وغسلها منفصلة. الإكثار من شرب المياه والسوائل الدافئة بدون سكر. مطالعة بعض المقالات ومقاطع الفيديو لتمدني بفهم أعمق لما أمر به. صار لي نمط لأيام العزل اعتدته دون أن أحبه.

أصعب اللحظات

باستثناء نوبات ضيق التنفس التي كنت أشعر معها بأن روحي عالقة في حلقي. يمكنني الجزم بأن صعوبة كورونا في الحالات الخفيفة والمتوسطة نفسية أكثر منها بدنية. أنت لا تواجه فيروسًا فحسب، وإنما تواجه عزلة، قلقًا، مخاوف، غموضًا. كمّ هائل من المعلومات المتناقضة. كمّ هائل من الأخبار القاتمة تطالعه في عزلتك. كم هائل من الترقب لكل جديد يطرأ على جسدك. كم هائل من الضغط بنصائح طبية يسديها المحيطون، بينما أنت متيقن أنها مسألة وقت لينهي الفيروس اللعين دورته في جسدك. والمحصلة كم هائل من الإنهاك النفسي.

ما قبل إنهاء العزل

هل تذكر شعور الامتحان الأخير حينما كنت تفقد قبله كل طاقتك للمذاكرة؟ هكذا كان شعوري بعدما تجاوزت شهرًا من العزل. لم أعد أحتمل أن يخبرني الطبيب أن أواصل العزل أيامًا إضافية. كنت أعد أيام العزل تفاؤلاً بقرب انتهائها ثم توقفت. صبري ينفد. مشاعر سلبية تتملكني. أبدو حساسة أكثر مما ينبغي. عصبية للغاية. تتجدد أعراض كانت قد انتهت. أتعامل مع الأمر بإحباط تارة، وبسخرية تارة، فأخبر أمي أن الفيروس يعز عليه فراقي. السخرية تكون أحيانًا وسيلة دفاعية أمام المآسي. أو ربما الوسيلة الوحيدة لقلة الحيلة.

لم أعد أرد على الاتصالات أو رسائل المقربين. أحفظ عبارات الدعم المتوقعة. وأظنهم أيضًا حفظوا إجابتي المعتادة: “إن شاء الله خير”.
كانت فيروز حاضرة معي في أيام العزل الأخيرة بسيطرة عدة جمل من أغانيها على رأسي “ضجرت مني الحيطان ومستحية تقول”، و”ما عاد فيه غير النطرة والضجر” و”ما فينا إلا نعد ونعد الأيام”.

كنت راضية جدًا.. لكن محبطة جدًا. تجتمع فينا الأضداد لأننا بشر.

نتيجة المسحة.. ترقب وانتظار

استيقظت يوم استلام نتيجة المسحة وأنا أتأمل أن تكون سلبية، لأفتح باب غرفتي وأنطلق كعصفور طال حبسه. كنت متلهفة لاستلام النتيجة، بينما أتلكأ خوفًا من استلامها.

نظرة ذلك الموظف وهو يسلمني النتيجة حسمت كل شيء. وجه جامد يحاول ألا تعلوه أي مشاعر. عرفت النتيجة قبل أن أطالعها. النتيجة إيجابية. رددت عبارات أحمد الله فيها ممنية نفسي بجزاء الصابرين. لم يهز تماسكي سوى ذلك الوجوم على وجه أمي. صمتت أمي طويلاً ثم أخذت تبتهل إلى الله طالبة منه النجاة لي. ظللت أطمئنها أننا قد تجاوزنا الصعب، وربما هي فقط آثار الفيروس. مارست حيلتي معها من جديد بالتعامل مع الموقف بسخرية. ثم أغلقت باب غرفتي وبكيت لا لنتيجة المسحة وإنما لحزن أمي.

واصلت البقاء في غرفتي لأسبوعين إضافيين، إلى أن أخبرني الطبيب بإمكانية فتح القفص. ظننت أنني سأقيم الأفراح لحظة شفائي. لكنني خرجت من عند الطبيب بمشاعر حيادية. ربما لأن أي أمر طال انتظاره يتركك منهكًا من طول التمني. كمشوار طويل كنت تركض خلاله فتصل لاهثًا، فيلهيك التقاط أنفاسك عن فرحة الوصول.

انتهت التجربة تاركة في نفسي شعورًا بزهد الحياة تارة، ورغبة في أن أحياها للمنتهى تارة. وبحاجة لفرحة عاجلة تمسح عن القلب آثار تلك الليالي.

المنحة في قلب المحنة

لم أحب تجربة الإصابة بفيروس كورونا لكنني ممنونة لها. أهدتني منظورًا مختلفًا للحياة. علمتني كورونا أننا غارقون في بحر نِعم. وأنني أمتلك فقط اللحظة الحالية، فلا داعي لذهاب النفس حسرة على الغد. علمتني أن أثمن ما يمتلكه المرء من أهل وصحبة يأمنهما وقت ضعفه.

أما أهم ما علمتني إياه كورونا، ألا أنسى الدعاء لأولئك الذين يعد المرض قاعدة حياتهم. أولئك الأبطال الذين يصارعون أمراضًا في معارك طويلة ولا يصل أنينهم سوى لله. دعائي لمن اختبرت جزءًا صغيرًا من حياتهم فأصبح بإمكاني تخيُل ما يواجهون. فاللهم خفف عنهم وطأة قلة الحيلة وشراسة الألم.

اقرأ أيضًا: شائعات وأخبار كاذبة حول كورونا وأثرها على الصحة النفسية

المقالة السابقةفيلم I still believe وكيف آمن قلبي
المقالة القادمةمسلسل this is us: التقليدية تربح أحيانًا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا