مسلسل this is us: التقليدية تربح أحيانًا

1373

بقلم: سلمى محمود

هل تبدو قصص العائلات السعيدة النمطية شيئًا يمكن المراهنة على نجاحه اليوم؟ تساؤل ربما دار في أذهان العديد من صناع المسلسلات، حيث المراهقين والشباب من متابعي Netflix وHBO وغيرهما، صاروا متعطشين للقصص الأكثر غرابة ومأساوية ودراماتيكية، وقِلة منهم فقط ما زالت تستهويه القصص الدرامية التقليدية. نتيجة لذلك طفت الأعمال الغريبة وغير المألوفة على ساحة الأعمال الفنية، بينما خفت بريق النوعية الدرامية الدافئة، ولم تعد حصان السبق الناجح. إلا أن مسلسل This is us أثبت غير ذلك.

الرهان على التقليدي

الغريب أن هناك من قرر الرهان على الاستثناء والأكثر غرابة أن الرهان نجح، بل وكانت تلك الخطوة بمثابة ورقة يانصيب رابحة، إذ قلب صناع مسلسل This is us الطاولة على الجميع بإنتاج واحد من أفضل المسلسلات الدرامية، بتقليدية أمس وفكر اليوم، وبخلطة نجاح مُبهرة، تمثلت في السيناريو الجذاب، الجُمل الحوارية الراقية التي كانت صادقة بقدر واقعيتها، وفريق العمل الذي تم اختياره بعناية فائقة، مما ساهم في تعلق الجمهور بشخصياتهم، وكل ذلك مع الحرص على عدم الوقوع في فخ النمطية والملل.

قصة المسلسل

قصة This is us تدور حول عائلة تبدو تقليدية، ولكنها أبعد ما يكون عن التقليدية. “جاك” الأب الذي نشأ وسط ظروف عصيبة كان بطلها والده القاسي الصارم، مدمن الخمر الذي كان يتلذذ بتعذيبه وأسرته بالكامل، وأم تقليدية ضعيفة تخشي المواجهة، وأخ متسيب ولكنه صديق الطفولة والمراهقة المقرب لـ”جاك”.

“ريبيكا” الأم التي عاشت حياة الرفاهية والدلال، التي لم يعكر صفوها سوى فشلها كمطربة صاعدة، ومعاناتها مع تسلط والدتها التي لم تكن تتوانى في فرض كل شيء يخص حياتها.

تعرف “جاك” على “ريبيكا”، ونشأت بينهما مشاعر حب رقيقة صافية، ورغم كل الصعوبات والعوائق لفارق المستوى بينهما، وظروف “جاك” السيئة، ومعارضة والد ووالدة “ريبيكا” على إتمام الزيجة، تزوجا ثم توجا زواجهما الناجح بثلاثة أطفال، توأمان “كيفين” و”كيت”، وطفل متبني “راندل”، والذي ظل فقدانهم لـ”جاك” الأب في وقت مبكر في حياتهم هي المأساة والطامة الكُبرى، التي مهما حاولوا تقبلها ظلت ذكراه تطاردهم في كل ركن وكل حكاية، كل موقف عابر أو ذكري.. كل شيء ظل يقودهم إليه في النهاية.

مسلسل This is us هو عمل تليفزيوني أمريكي كتبه دان فوجلمان، وعرض لأول مرة على شبكة NBC عام 2016، حصل على تقييم 8.7 على منصة IMBD. تم إنتاج 4 أجزاء من المسلسل ومتوقع تمديده بموسمين إضافيين.

الدراما وحدها لا تكفي

أكثر ما أثار إعجابي والكثيرين بهذا العمل هو ابتعاده عن فخ الدراما النمطية الخالية من الهدف والقيمة، والتي لا تضيف جديدًا للمشاهد، إنما بدلاً من الاستخفاف بالمشاهدين نجحوا في تقديم عمل درامي واقعي، مزج بين المواقف التراجيدية التي يذرف معها المشاهد الدموع، وقضايا وصراعات اليوم.

قضية التبني التي تم التعرض لها من خلال حكاية راندل“، ومعاناته طوال حياته من إحساسه بالغربة لكونه طفلاً أسمر نشأ وسط عائلة بيضاء، فبرغم معاملة والديه الحسنة كان دومًا يرى في أعين الناس نظرة أنه مختلف ولا ينتمي إلى عالمهم، وكيف ساهم ذلك في نوبات القلق الزائد التي عانى منها في حياته، ثم ابنته من بعده.

“كيت” التي عانت منذ صغرها من الوزن الزائد، وأثر ذلك على حياتها وعلاقتها بالآخرين، فقدان ثقتها بنفسها، علاقتها المضطربة بأمها وزوجها، وما زاد الطين بلة هو شعورها بالذنب إزاء وفاة والدها، وهو ما جعلها تكتسب وزنًا إضافيًا، حرب فيتنام التي سلطت الضوء على معاناة الشعوب من خلال قصة “جاك” وأخيه “نيكي”، إدمان الخمر الذي دمر حياة والد “جاك” وحوَّله لشخص قاسٍ تسبب في إيذاء الكثيرين، وكيف عانى “جاك” و”كيفين” من الأمر ذاته وخسرا بسببه الكثير.

صعوبات الحياة الزوجية من وجهة نظر أزواج من أنماط حياتية مختلفة، مشكلات الأخوة، فقْد أقرب الأشخاص إلينا بصورة مأساوية وانعكاسه على حياتنا، التسامح والفرصة الثانية والتي ليست دائمًا سيئة.

العائلة دائمًا أولاً

إن لم تكن عائلتك على رأس أولوياتك فحتمًا لديك مشكلة كبيرة يجب أن تقف أمامها طويلاً. يذكرنا المسلسل بالحكمة الأهم “العائلة أولاً”، التي ضاعت مؤخرًا في غمرة الحياة وتسببت في فقدان لغة الحوار بين جميع أفراد الأسرة، فمن خلال ثلاث أسر متنوعة نتذكر بأن أفراد عائلتنا هم أكثر الناس حبًا وتقديرًا لنا، مهما اختلفنا، انقسمنا، بعدتنا ظروف الحياة.. لا سند لنا سوى عائلتنا.

“جاك بيرسون” الأب العطوف الذي يعرف نقاط ضعف أطفاله، يساندهم ويزيد ثقتهم بأنفسهم، “ريبيكا” الأم التي رغم خلافها مع زوجها تقف بجواره في أزمته، ورغم معاناتها من بعد وفاته فقد تماسكت ولملمت أوراقها وعادت لتدفع بعائلتها إلى بر الأمان. الأبناء الذين يقفون بجوار بعضهم بعضًا مهما اختلفوا، “راندل” الزوج المساند لـ”بيث” زوجته، ورغم اختلافهما أحيانًا فإنهما يجدان دومًا باب الرجوع. الابن الذي يتسامح مع والده البيولوجي رغم تخليه عنه سابقًا، والأب الذي يقف بجوار ابنتيه في أزماتهما ويتبني أخرى ليعوضها بالحنان الغائب عنها.

“كيت” الزوجة والأم الناجحة، “كيفين” الذي أعتبره أقرب الشخصيات لـ”جاك”، وظهر ذلك جليًا في معاملته للجميع، وبالأخص عمه “نيكي” الذي وقف بجواره في محنته وكان خير سند له، هكذا تكون العائلة.

لا يوجد شخص مثالي.. لكل منا مأساته الخاصة

يذكرنا المسلسل بأن ليس كل ما نراه حقيقًيًا، وأن الصورة التي تراها غير كاملة، إنما هناك دومًا قطعة ناقصة لا تعرف عنها شيئًا، لا تنخدع بالشخصية المثالية التي لا وجود لها سوى في الروايات الرخيصة، فلا أحد كامل، كلنا بشر معرضون للاختيارات الخاطئة، لحظات القسوة والتسامح، الحب والكره، الانهيار والقوة، المعاناة والدفء.. لكل منا مآسيه الخاصة.

فـ”جاك” الأب والزوج المثالي الذي خطف أعين الفتيات منذ الحلقة الأولى، أدمن الخمر في لحظات ضعفه، تحدث بينه وبين زوجته الخلافات ولم يسامح أخاه على خطأ لا يتحمل مسؤوليته بالكامل، أما “ريبيكا” الزوجة المثالية أخفت عن ابنها المُتبنى والده الحقيقي، وأبعدته عنه لسنوات لخوفها من أن تفقده. “كيت” تحقد على أمها لجسدها المثالي، ورغم حبها لزوجها فإن الخلافات تحدث بينهما لنفس السبب، كما يشعر “توبي” زوجها أحيانًا بالغيرة من علاقتها بأخويها، “كيفين” يظن أن والدته تفضل شقيقه عليه، لذا تحدث الخلافات بينهما، يدخل في دوامة من إدمان الخمر ويخون “صوفي” حب عمره، أما “راندل” فرغبته في السيطرة على كل الأمور وأن يكون كل شيء مثاليًا جعلته أنانيًا أحيانًا، وهو ما كلفه الكثير من الخلافات مع إخوته وزوجته ومن حوله.

الفقد والعوض

القدر قد لا يكون رحيمًا بالبعض أحيانًا، يخبئ لنا مفاجآت غير سارة، يأخذ منا أعز ما نملك، يحرمنا من أقصى ما تمنينا، إلا أنه يعوضنا رغم كل شيء. هذا ما يلفت نظرنا المسلسل إليه، العوض.. فمهما فقدت في حياتك تذكر دومًا أن هناك ما قد يعوضك عما فقدت، لن يُنسيك إياه ولكنه قد يكون كافيًا بالقدر الذي تحتاجه لتتقبل معه ما فقدت.

خسرت “ريبيكا” زوجها في عز احتياجها له، وعاشت أوقاتًا صعبة وحيدة وتائهة بعد رحيله، فكان العوض في “ميجيل” صديق “جاك”، لم تحبه مثلما أحبت “جاك”، ولم يُنسِها إياه، ولكنه كان الرفقة التي تحتاجها حينها. عانى “جاك” من التفكك الأسري لسنوات طويلة، لم يعرف فيها معنى العائلة والدفء، ولكن القدر كان رحيمًا به، وقرر تعويضه بأسرة يشعر معها بالحب الذي فقده طوال حياته. تعرض “كيفين” لحادثة خطيرة أفقدته القدرة على لعب الكرة التي كان متفوقًا فيها، ليحول دفة مساره إلى الفن الذي وجد فيه ذاته، بل وأصبح ممثلاً شهيرًا وعوضه ذلك عن فقدان حلمه.

كافحت “كيت” رفقة مشكلات الوزن والشعور السيئ المصاحب لها، بأنها لن تجد من يحبها، لكنها دون أن تخطط عثرت على شريك حياتها الأنسب لها، ليخوضا معًا مرحلة جديدة من حياتهما معًا، أما “راندل” فعوضه القدر بأب وأم يحبانه، بدلاً من والده الذي تركه في أيامه الأولى أمام محطة الإطفاء، كما منحه بضعة أيام مع والده البيولوجي قبل وفاته، وكأنها تعويض لهما على الفراق السابق، وأخيرًا “نيكي” خسر أخاه دون قصد منه، فعوضه القدر بابن أخيه ليكون بمثابة الرفيق الذي احتاجه في الأيام الصعبة التي عاشها بمفرده.

ختامًا

This is us أثبت لنا أن الواقعية تربح أحيانًا، والبساطة قد تكون بوابتك نحو النجاح، لا تحتاج إلى عمل خارق يحتاج المشاهدون معه لفك شفرات ألغازه المعقدة أو دراسة اللوغاريتمات وعالم ما وراء الطبيعة، أو حتى تتبع الجرائم والمطاردات، لكي تفرض نفسك وتضمن نجاحك، ببضع عناصر تقليدية ولكن مميزة في نفس الوقت، مشاهد حوارية قوية، قصص حب واقعية، يمكنك أن تنجح في استمالة كارهي النوع الدرامي قبل حتى محبيه. أن تحقق نجاحًا كبيرًا يجعل العمل يقفز على رأس أبرز الأعمال الدرامية التليفزيونية، تصنع عملاً يبقى في الذاكرة طويلاً، يحفر اسمك بالبنط العريض وسط الكبار.. هذا نحن وهذه قصتنا وهذا نجاحنا.

اقرأ أيضًا: Ben is back: الأمومة التي لا تعرف الاستسلام

المقالة السابقةرحلتي مع كورونا: ما دار برأسي ٤٥ يومًا في الحجر الصحي
المقالة القادمةعلامات فقدان الثقة بالنفس، فقدان الثقة بالآخرين، علاج فقدان الثقة بالنفس
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا