الوضع مزرٍ، والمكان ضيق حرج، وأنا في مرحلة صعبة جدًا، وجدتني عالقة في مكان لم أكن أطيل المكوث فيه، تحوَّل البيت إلى مخبأ، ولا أحد قادر على مساعدتي، كما أنني لم أعد قادرة بأي شكل على مساعدة نفسي، لا أستطيع المواصلة ولا أقدر على الفكاك.
الصحة بلا ضمان
كنت ككثيرين، أتعامل مع نفسي باعتباري متجددة لا أنفد، لكن ما أنكرته أنا اعترف به جسدي، وصرخ بعنف في وجهي ووجه من حولي “تلك الفتاة أصبحت خارج الخدمة وبحاجة إلى كثير من الراحة حتى تتمكن من المواصلة”، رسالة لم أعترف بها أو يعترف بها أحد.
كان ذلك حين التهبت لوزتاي لأول مرة في حياتي، ربما لهذا لم أنتبه أن هناك خطبًا ما، أنا لم أخابر هذا الألم من قبل ولا أدري سبب هذا التكسير العنيف في جسدي، لكن الأكيد أنني يجب أن أواصل خدمة أبنائي فهم بحاجة إليَّ، وعليَّ أن أتنكر لهذا العجز المباغت الذي اجتاح أوصالي لعدة أيام قبل أن أنهار تمامًا. لم أذهب لطبيب، واكتفيت بتصوير لوزتَي بعد أن انتبهت أنهما مصدر الألم، وبعثت بها عبر إحدى المجموعات الطبية باعتبار الأمر خطبًا بسيطًا، لكن التعليقات جميعها جاءت مجتمعة على أن “إزاي ساكتة على نفسك لحد دلوقتي؟”، هكذا رحت للطبيب ليؤكد أن الحالة التهاب بكتيري حاد. أخبرني الطبيب بضيق “شكل اللوز مش عاجبني ولو التهبوا تاني قريب هنضطر نشيلهم”.
لا أتعلم من أخطائي
الكل يتحدث عن المناعة وأهميتها هذه الأيام باعتبارها حائط الصد الرئيسي ضد كورونا، كنت أشعر باطمئنان فيما مضى، حين يبدأ الحديث عن المناعة باعتبارها مضمونة، لكنني رحت أنهار، فلم أكد أفيق من تجربة الالتهاب البكتيري الحاد حتى منيت بمرض مناعي سخيف يدعى “الحزام الناري”، هكذا واصل جسدي احتجاجه وتأكيده أن صاحبته ليست بخير، وأنها ستواجه ما هو أسوأ إن لم تفق في الوقت المناسب.
في الواقع واصلت مهامي المنزلية لفترة كبيرة قبل أن أنهار مرة أخرى، رحت أتجاهل الأعراض كالعادة، والألم العنيف في كتفي وصدري وظهري، حتى صار الوضع غير قابل للاحتمال مرة أخرى، وكأنني لم أتعلم من المرة الأولى، قمت بتصوير جلدي الذي بدا محترقًا وأرسلت الصورة إلى طبيب جلدية ليخبرني أنني مصابة بحزام ناري وأنني يجب أن أتوقف عن إرضاع ابنتي فورًا. في تلك اللحظة انهرت تمامًا، ورحت أبكي بمرارة؛ أنا لست مستعدة ولا ابنتي لهذا الأمر، كما أنني كنت أمني نفسي بتجربة الرضاعة لمدة عامين بعد أن عجزت عن إتمامها مع ابني الأول.
لم يخفف من هول صدمتي، سوى تلك الابتسامة على وجه طبيب الأمراض الجلدية، ورحت أتلمس منه رأيًا يريحني في مسألة الرضاعة، فأكد علي بدوره أنني يجب أن أتوقف عن الرضاعة لأن الدواء كثيف ولأن المرض معدٍ بالتلامس.
عن “الرزل” والطبيب الحكيم
كان طبيبي بشوشًا للغاية، يربت على كتفي ويطمئنني أن كل شيء سيكون على ما يرام، طبيب عجوز خابر ما يكفي من الحياة، شعر أن أزمتي ليست بدنية فقط، ولكنها نفسية أيضًا، فأراد أن يوضح لي فداحة الأمر “بصي يا بنتي، من بداية الثورة والرزل كتر”، فنظرت إليه متسائلة “وما هو الرزل؟”، فأخبرني “الحزام الناري” ثم راح يعرض لي شريط 10 سنوات، منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة وحتى الآن، كيف بات الناس يفتقدون النوم الهادئ والوقت الرائق، الجميع متوتر ومترقب، هكذا راحت المناعة تنهار شيئًا فشيئًا، فتمكن “الرزل” من الكثيرين، ذلك الوحش الرابض عند الأطراف العصبية، يترقب لحظة انهيار المناعة حتى يتمكن من صاحبه فيصيبه بطفح حارق وناري.
“كل ده نقدر نتلاشاه بالأكل الكويس والراحة النفسية والنوم الهادئ”، ثلاثة أمور قالها لي الرجل في ثانية لكنها بدت لي كالغول والعنقاء والخل الوفي، ثلاثة مستحيلات في ظروف ضاغطة عصيبة. متى كانت آخر مرة نمت فيها بعمق وهدوء واستيقظت نشيطة؟ منذ متى توقفت عن حساب سعراتي ومدى فائدة الطعام الذي أبتلعه لسد الجوع بصرف النظر عن فائدته؟ متى كانت آخر مرة جلست فيها بهدوء وسكينة دون مضايقة؟ الواقع أنني ككثيرات مثلي يركضن خلف متطلبات البيت، بيت نظيف، طعام جاهز، طفل لا يعاني ولا يبكي، وجوه سعيدة وراضية عني، فيما أنا لست راضية أو سعيدة أو مرتاحة.
رأس مالي يضيع
ربما كان المكسب الوحيد في أزمة كورونا هو ذلك الدرس القاسي الذي تعلمته أخيرًا، أن الحياة بالكامل تتوقف في أوقات عديدة على المناعة.. رأس مالنا الخفي الذي لا نعلم عنه الكثير، والذي يتأثر بشكل شبه كامل بالحالة النفسية، هكذا ببساطة يمكن أن تقتلنا كلمة سخيفة أو موقف سيئ. أسمع كثيرًا عن هؤلاء الذين يبيتون حزانى فلا يستيقظون، لكنني بت أعلم الآن مدى الأثر الذي يمكن أن تتركه الحالة النفسية على الجسد، هي لا تقتل، ولا تُمرِض فقط، ما زلت أذكر حين ولد ابني الأول كيف كان حليب صدري ينقطع عنه إذا حزنت، فلا يدر عليه طعامه إلا إذا ابتسمت وتحسنت نفسيتي.
لكن وإن كانت المناعة هي رأس المال، فيبدو أن رأس مالي يضيع مني وأنا عاجزة عن إيقاف النزيف، المسؤوليات تجعلني عاجزة تمامًا عن الحصول على قدر مناسب من الراحة أو الهدوء، أنا في خطر ولا أدري كيف يمكنني الفكاك.
الحل السري
في الواقع ليس هناك حلول جاهزة، لهذا لجأت إلى مجموعة سرية تضم مجموعة من الصديقات اللائي أثق في آرائهن، كتبت لهن كيف انهارت مناعتي، لدرجة اضطرني إلى فطام ابنتي، تغيرت هرمونات جسدي، وبات الإرهاق البدني والنفسي يهدد حياتي، كيف بت عاجزة عن إسعاد نفسي، وعلقت داخل دائرة لم أعد أعلم كيف يمكنني أن أخرج منها.
يومها ظللت ممسكة بهاتفي، كأنني في انتظار نتيجة الثانوية العامة، في انتظار كلمة تضيء لي عتمتي، جاء التعليق الأول من صديقة أعربت عن مدى أسفها لما أشعر به من ضغط، وعن شعورها بما أمر به، ثم نصحتني بالبحث عن طبيب نفسي لأنها تعتقد أنني بحاجة إلى سند من الناس وكذلك من شخص مختص، جاء التعلق التالي من صديقة اختارت أن تساعدني بالدعاء، فيما أعربت صديقة ثالثة عن دعمها الشديد لي ورغبتها الصادقة في التسرية عني بالخروج أو حتى باستضافة أبنائي ليوم كي أرتاح إن كانت الظروف أفضل مما هي عليه الآن.
في الواقع بدأت أشعر بكثير من الارتياح لمجرد قراءة التعليقات التي اكتفيت بإبداء رد فعل “قلب” تجاهها، حيث لم أكن أملك قدرة على الحديث أو النقاش، كنت بحاحة للاستماع فقط، وقد أعطاني مجرد التعليق شعورًا بأن هناك من يكترث لأمري، أمطرتني الاقتراحات، بين ضرورة الابتعاد عما يؤذيني، ومحاولة السفر، وإيجاد عمل جديد، ورفع مناعتي ببعض الفيتامينات، والطعام الجيد، والحصول على مساعدة محترفة، حتى أن صديقة نصحتني بضرورة شرب اليانسون باللبن قبل النوم كمهدئ طبيعي، وهي نصيحة على بساطتها بدت لي عظيمة، أما النصيحة الأخيرة فقد جاءتني من صديقة مقربة أعربت عن رغبتها في استضافتي لتعد لي طعامًا صحيًا يحسن نفسيتي وصحتي، وراحت تعدد لي الأطعمة الرديئة التي تقلل من مقاومة الجسم للأمراض، فيما رحت أقرأ التعليقات راودني شعور أنني أصبحت بخير.
لن أقول إنني تحسنت بنسبة 100%، لكن مجرد التوقف من أجل الحكي والحصول على بعض الاهتمام، أزاح عن كاهلي نصف مشكلتي، تراجعت عن رغبتي في المثالية، حاولت تحديد مشكلاتي تمهيدًا لحلها، وتحليت ببعض الهدوء تجاه بعض المواقف التي كانت لتثيرني بشدة من قبل، في الواقع حاولت أن أبقى على قيد الحياة حتى لو اضطرني هذا للتوقف عن رغبتي المستمرة في أن يكون كل شيء حولي على ما يرام بينما أنا لست بخير، أدركت أهمية النوم، فهو نصف العلاج فعليًا، بت أفضل النوم على الإنجاز، تراجع أدائي العام، أصحو متأخرة فلا يهمني، لم أعد أؤنب نفسي كما كنت أفعل، سابقا، في الواقع خفضت سقف توقعاتي من نفسي ولم أعد أنتظر مني إلا أن أكون بخير، ما فائدة الإنجاز إن كنت منهكة، إن كان ضروريا أن أبقى في البيت فعلى الأقل يجب أن أبقي بخير، هذا هو الأهم.
اقرأ أيضًا: يوميات أم في زمن الكورونا