أنا أم عزباء.. منذ سنوات لم يكن هذا التعريف معروفًا. من هُن مثلي يتحاشين التصنيف منعًا للتطفل في مجتمع لا يرحم، نخفي الحالة الاجتماعية على الفيسبوك، أما في البطاقة الشخصية، فسهَّلت الحكومة علينا الأمر بأن تركت الخانة بيضاء ناصعة.
أنا “مدام” أو سيدة، بحكم كوني أجُر طفلتي معي في كل مكان، يسألونني أين زوجِك، فأقول في الخارج أو لا أرد. في المصالح الحكومية أضطر للاعتراف، فتتحسر الموظفات، يقُلن لا زلتِ صغيرة، ثم يستمررن في حشر أنفسهن، فيسألن عن سبب الانفصال، أقول “نصيب” وأنا أبتسم ابتسامة لزجة.
يأتي تعريف “أم عزباء” نجدة من السماء، لكن البعض يستكثره عليّ وعلينا، يقولون تتشبهن بالغرب، وكأننا لا نفعل في كل شيء آخر بداعٍ وبدون. لذا تأتي هذه الاعترافات حتى ولو كانت خاصة جدًا، لترد ولو بالقليل:
الاعتراف الأول
مترددة جدًا.. مترددة كالعادة في كل شيء، في اختياراتي لملابسي، في مواعيد عودتي للمنزل، في طريقة نطقي لمخارج الحروف، في اختياري لكلماتي أصلاً، كل شيء بحساب، لأن هناك الكثير من الأعين التي تترصدني، من أقرب الأقربين، إلى السائرين بجوار بوابة المنزل، هناك العشرات ممن لا أعرفهم، الذين يحسبون عليّ أنفاسي، أو يترصدون اللحظة المناسبة، ليهمسون في لؤم: تفعل ما تريده لأنها مطلقة.
الاعتراف الثاني
كلمة “أم عزباء” نفسها تبعث على الدهشة. أذكر جيدًا عندما نطقتها علانية لأول مرة أمام بقية الأمهات ونحن ننتظر ميعاد فتح بوابة المدرسة لاصطحاب أطفالنا، نظرن إليَّ في عدم تصديق، لأكتشف بعدها أنهن ظنن بأنني أنجبت خارج نطاق الزواج. اكتشفت هذا عندما أخذتني واحدة منهن جانبًا لتسألني ماذا أعني بأنني أم عزباء بالضبط، لأشرح لها في صبر أنني مطلقة، وأنني أُربِّي طفلتي وحدي، لأن إلى جانب ذلك، والدها يعمل في الخارج ولا يراها سوى في إجازات بعيدة، لتتنهد هي في ارتياح وتهرع لشرح الأمر إلى الأخريات ليمنحنني البراءة.
الاعتراف الثالث
يرددون جملة “امرأة قوية مستقلة” في كل مكان، يكتبونها ما بين “تريند” رائج على مواقع التواصل الاجتماعي، أو “تريند” معاكس ساخر من الجملة، لكن الجميع يجهل أن الأمهات العازبات لا ينتمين لهذا الوصف أو عكسه، فهن قويات رغمًا عنهن، لكنهن لسن مستقلات، هن يحملن على ظهورهن شيئًا آخر، مسؤولية طفل أو أكثر تصحبهن طيلة حياتهن، هذه المسؤولية تمنعهن من فعل الكثير، وتعطلهن عن الكثير، لكنهن لا يمانعن هذا، إنها مسؤولية حب تجعلهن غير عابئات بمسميات ولا تريندات ولا تصنيفات. سمهن مطلقات أو أرامل أو معيلات أو أمهات عازبات.. في النهاية، هن سيدات رائعات فحسب.
الاعتراف الرابع
أتطلع إلى الكثير من الفرص التي تذهب من بين يدي، فرصة سفر طويل أتمناها بشدة، لكن لا يمكنني تلبيتها لأنني أتخيل وجه ابنتي الدامع، واشتياقها لي واشتياقي لها، أمحو الفكرة تمامًا من عقلي بلا تردد ولا أعود للتفكير فيها.
أعمل ليل نهار بلا كلل، أنسى أن لي حياة أو أنني يجب أن أنام قليلاً أو أرتاح قليلاً، لأوفر لها حياة تستحقها، لأنني أستند على الفراغ، لو لم أفعل كل هذا.. من سيفعل؟
الاعتراف الخامس
طوال اليوم، هي تسليتي وونيستي، لكن في المساء أفتقد الونس، الوحدة هي الرفيق الدائم للأمهات العازبات في الليل، وحدة “مشاعرية” كما أسميها بيني وبين نفسي، تمتصني تمامًا وتتركني كما عود الحطب الجاف، لا أحد أبادله المشاعر اللطيفة العادية، وهي ما تعنيني أكثر، وليس مجرد الاحتياجات الجنسية كما يتبادر إلى ذهن الجميع.
أتطلع إلى سقف الغرفة، أُكوِّن أشكالاً من الظل والنور، تراودني العديد من الأفكار السخيفة، وأشعر أحيانًا بأن حياتي انتهت، لكنني أطرد الفكرة في الصباح عند رؤيتها سعيدة بهذا الشكل، لا يزال هناك الكثير لفعله معها، ومن أجلها يمكن تحمل ساعات الليل الخانقة.
الاعتراف السادس
المناسبات هي الأسوأ طبعًا، فكل ما أعرفهم ثنائيات، وكل أصدقاء ابنتي يصحبون أبويهم معهم، بينما نبقى نحن معًا، اثنان دائمًا ينقصنا ضلع ثالث، لا نتحدث عادة في الأمر، نحن نستمتع بوقتنا ونمزح ونضحك ونلعب، ربما تفاجئني بجملة أو تساؤل بين مناسبة وأخرى، تكسر قلبي أو تُدمع عيني، لكننا نتجاوز، ونبرر، ونسير في الشارع نتحدث كصديقتين ناضجتين، أحسب لها كم سيكون عمري عندما تصبح في العشرين، تصبح أطول قامة مني، وأجمل مني وأرشق مني، سأفخر بها كثيرًا.. كم أنتظر هذا اليوم!
الاعتراف السابع
لو عدت بآلة الزمن إلى الماضي، لاخترت حياتي الفائتة نفسها، بكل تفاصيلها وهزائمها وانكساراتها، من أجلك فقط أيتها الصغيرة، لأنني لا أتخيل حياتي من دونك، لا أتخيل أن أختار حياة أخرى بلا محطة فشل كبيرة مثل الطلاق تمحيك من حياتي، أنا أختار الفشل لو كنتِ أنتِ نتيجته، لأنكِ تحوِّلين أي فشل إلى نجاح كبير وساحق، تحولين لقب أم عزباء إلى أجمل لقب في العالم، يصبح لقبي الذي أفتخر به، وأعرّف نفسي به، وأردده في كل مكان.