قبل 23 عامًا، يوم أخبرتني جارتي بأنها أُجري لها عملية ختان، كانت فخورة بما حدث، تقصه على مسامعي بمنتهى السعادة والهدوء، باعتباره انتصارًا شخصيًا يُثبت أفضليتها. تكرَّر الأمر خلال الشهور التالية مع صديقات أخريات، كلهن تحدثن عن ختانهن بامتنان، كما لو كان تجربة إيجابية يتمنين للجميع المرور بها، خصوصًا أنه أُجرِي لهن تمامًا كعملية جراحية داخل مستشفى وبتخدير كامل، فما الداعي للهلع أو الرفض؟!
ومع طرح “نون” حملتها، وجدت ضرورة للتحاور مع زوجات من جيلي عن الختان وما يملكنه من ذكريات أو أثر بسببه، لاستكشاف إذا ما كان شعورهن تجاهه ووقعه عليهن قد اختلف بين الطفولة والنضج، أم لا.
ذكريات يوم الختان
“معملتهاش ولا أعرف حد اتعملتله، فعمري ما فكرت أصلاً في الموضوع”.
“ن” زوجة بمنتصف الثلاثينيات، كانت محظوظة بما يكفي كي تنجو من المرور بتلك التجربة، ومع أن جدتها أصرَّت على تختين الحفيدات، فإن الأم رفضت وحاربت بوقت لم تعتد النساء أن تقُلن لا للأهل.
وَعي أم “ن” لم يأتِ من الفراغ، وإنما لأنه كان مدفوع الثمن منذ زمن، إذ خُتِّنَت الأم صغيرةً وهو ما لم تنسَ تفاصيله يومًا، ليظل جرح التجربة داميًا ومفتوحًا رغم زواجها وإنجابها ومرور الحياة بها. ومع أن وقتها كان يمكن لتلك الأم الموافقة تحت الضغط والإلحاح، مُخرسةً الصوت الرافض للختان داخلها بأن البنج الكلي سيقي بناتها الذكريات السيئة، لكنها كانت ناضجة وصادقة مع نفسها للدرجة التي دفعتها للإصرار على موقفها.
وفي محاولة مزدوجة منها لحماية بناتها من جهة، والتعافي شخصيًا ولو بشكل جزئي من أخرى، جاء قرارها بدخول حربٍ مع أمها لم تجرؤ على خوضها صغيرةً، مُتسلحةً بقناعتها أن الختان عادة أكثر من كونه ذا مرجوع ديني، وإيمانها بأن التربية الصحيحة هي الأساس.
تعرفي على: زوجتي مختونه ماذا أفعل ؟ هل الختان ضروري
ألم الختان كم يستمر؟
“محستش لما فُقت من البنج غير بالألم والخجل”.
عشرون عامًا مرّت على ختان “ل”، وعلى ذلك يُمكن استشعار المرارة التي ما زالت بحلقها، رغم إدلائها بشهادتها كتابةً، إذ تقول بسخرية لاذعة إن أهلها خَتّنوها من مُنطلَق “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”، هكذا ببساطة ودون تردد أو حسابات كثيرة اختاروا قطع جزء من جسدها مُجاراةً للتقاليد.
ومع أنها أجرت العملية تحت التخدير، إلا أن ذلك لم يمنع شعورًا بالخجل والانتهاك من التَسَلُّل إلى روحها صغيرةً. في ذلك الوقت لم تكن تعرف أن ما تعرضت له يُثير الغضب أيضًا، فالغضب لم تعرفه إلا بعد أن كبرت وتشكَّل لها وعي بدا أكبر من وعي أهلها، الذين مارسوا عليها جهلهم. تاركين إياها تدفع وحدها الثمن، جرحًا غائرًا بجسدها لا يُمحَى، ومثله بروحها لا يعرف شفاءً، والأهم شعور دائم بالخذلان نتج عنه فقدانها الأبدي للثقة بــ”الكبار” الذين ما زالوا يُصرِّون -حتى اليوم- على كونهم الأعلم بكل شيء.
ويبدو أن كل هذا الأذى النفسي الذي ينخُر روح “ل” من الداخل، لم يكن دافعًا كافيًا لها لمواجهة أهلها والحديث معهم عما سببوه لها من وجع أبدي، فهي لا ترى فائدة قد تطولها من الكلام معهم وقد سبق السيف العزل.
متى يلتئم جرح الختان؟
“في جوازتي الأولانية كنت فاكرة إني باردة، بس لما اتجوزت تاني عرفت إني طبيعية وإن العيب في طليقي”.
في العاشرة من عمرها ذهبت “س” برفقة والدتها لأحد المستشفيات، لإجراء الختان على يد طبيب نساء، قبل أن تفيق من النوم فتجد نفسها في المنزل وتظن أن الأمر انتهى عند هذه النقطة. ظلت تلك هي الحال إلى أن تزوجت بسن الثامنة عشر لينفتح الجرح فجأة.
ست سنوات هي عمر زيجة “س”، ورغم طول المدة وزواجها عن حب فإنها لم تختبر ولو لمرة العلاقة الزوجية الكاملة! ولأننا بمجتمع تُنسَب فيه الأخطاء للنساء، ظنَّت “س” أن المشكلة بسببها، كما يليق بامرأة مختونة وُصِمت مُسبقًا بالبرود الجنسي، خصوصًا أن زوجها رفض استشارة أي طبيب مؤكدًا حتمية فحولته.
رُبما لذلك لم تجرؤ على إخبار أحد من أهلها، حقيقة كواليس غرفة نومها المُخيَّبة للآمال، حتى أنها توجهت بكامل قواها العقلية لطبيبة نساء لتفض لها غشاء بكارتها، كما ادَّعَت الحمل بمرحلة ما قبل أن تعود فتَدَّعي التعرُّض للإجهاض مُتظاهرةً بأنها تعيش حياة طبيعية.
تُرى هل كانت تفعل ذلك دفاعًا عن رجولة زوجها المهزومة أم حمايةً لنفسها من اتهامات لم يوجهها لها أحد، وإنما وصَمها بها تعرَّضها للختان؟!
ومع نُضج “س” وإصرار زوجها على رفض العلاج، انتهت زيجتهما بالطلاق، ليمر العمر وتقترب من الثلاثينيات، وهو ما تزامن مع زيجتها الثانية، التي اختبرتها بعد أن تعلمت كيف تثق بنفسها، وألا تسمح لأحد بوصمها أو التقليل من شأنها.
والأهم بعد أن صارت لا تخشى دفع الثمن، مؤمنةً بأن الوحدة خيرٌ وأبقى من علاقة مُشوَّهة تتغذى على روحها لتكبر وتستمر، لذا لم يكن غريبًا أن تكتشف حينها عدم برودها جنسيًا، وأن الوصول للأورجازم ممكن وحقيقي بل ومُتكرر.
من واقع قصص الختان
كانت تلك شهادة زوجات ثلاثينيات ينتمين لبيئات وثقافات مختلفة، وعلى تباين التجارب وتفاوت الوعي بينهن، يظل “الختان” ذا شأن بحياة غالبيتهن، حتى “س” التي نجحت بتجاوز التجربة واستعادة ثقتها بنفسها جنسيًا، ذلك لأن استكمال الناجيات من الختان طريقهن دون أن تُدمَّر حياتهن، ليس القاعدة وإنما الاستثناء.
ومع أن النساء من الأجيال الأكبر سنًا قد يعتبرن مولودات الثمانينيات وما تلاها أفضل حالاً، لأنهن مررن بتجربة الختان بعد أن صار يُجرَى داخل أروقة المستشفيات وتحت تأثير البنج الكُلّي الذي ضمن لهن تخفيف ألم الختان، الأمر الذي يجعل مشاعر مثل الفزع، الإهانة، الخيانة، الألم النفسي والجسدي لم تتحقق للأجيال الحديثة.
على عكس الأخريات اللواتي تعرَّضن للأمر نفسه قديمًا على يد قابلات، دون استخدام أي مخدر وعلى أرض إحدى غرف المنزل، التي بعضها ما زال حتى هذه اللحظة جزءًا من حاضر صاحباتها، يُذكرهن كل يوم بقطع جزء من أجسادهن هناك على مرأى ومسمع من الكثيرين.
إلا أنه وفقًا لآراء بعض المُعالجين النفسيين فإن ذلك غير صحيح، إذ أن فِعل التخدير لا يعني مُطلقًا أن “التروما” التي تعرَّض لها الجسد لم تحدُث، وإنما تمت بشكل غير واعٍ، مما يُساعد أحيانًا على تأجيل ظهور الآثار المترتبة عليها دون أن ينفي وقوعها. فالجسد بختانه قد اختبر الفِعل والألم واختزن الذكريات المريرة كلها بين طيَّاته، كل ما في الأمر أن اللحظة المناسبة للانفجار -أو بأفضل الأحوال استدعاء الذكرى كاملةً من جديد- لم تأتِ بعد.
جدير بالذكر أن الألم الجسدي ليس وحده الأبقى بالذاكرة، فالناجيات من الختان يُحاربن كل يوم وصمهنّ المُسبق بالبرود الجنسي وشعورهن الداخلي بالقهر أو الغضب تجاه الأهل، الذين كان عليهم أن يكونوا ملاذًا آمنًا، يُحاربن أشباحهن الخاصة، وليس فقط أشباح الآخرين، في سبيل القدرة على الاستمرار والعطاء ورفع الرأس عاليًا دون أي شعور بالذُعر أو الانتقاص.
اقرأ أيضًا: لا تقتلونا بالختان