لا تكمموا أفواهنا

949

 

بقلم/ هند عزت

 

منذ أيام حملي الأولى، لاحظت ظاهرة غريبة بالنسبة إليَّ، وهي أن كل من يهاتفني للاطمئنان على أحوالي كان يصاحب ذلك محاولة لقمع أي كلمة تبدو شكوى أو إنهاك من متاعب الحمل. كنت أتعجب تكبد البعض عناء الاتصال بشخص انطوائي مثلي وإلحاحه في السؤال عن أحوالي، بينما إذا رددت بالحق عن ألمي يكون رد الفعل غريبًا، ما بين أن تلك حال جميع النساء وأن نحمد الله في صمت، فهذه نعمة غيرك يتمنى أن يحظى بها بكل لحظة ألم.

 

لم أفهم أبدًا سر الاتصالات التي توالت على هاتفي كي تزيد من تعكير مزاجي، خصوصًا أنني كنت في حالة حمل حرجة وخطيرة، وصحتي في تدهور دائم، فما الداعي بأن أتظاهر أنني بخير وأنا في حالة يُرثى لها؟! فكان القرار هو مقاطعة الرد على الهاتف حتى ألد، وقد كان.

 

بعد الولادة تعرضت لمضاعفات خطيرة أيضًا، رافقها فقداني لجدتي العزيزة، وتوالت مكالمة التهنئة ممزوجة بعزاء وسؤال عن توأمَي الصغيرين، وكيف أبلى معهما في ظل توعكي وتوعكهما الصحي بحكم هزلهما ودخولهما حضّانة، وكان ردي أيضًا صريحًا، نعم أنا متعبة وفي حالة انهيار تام صحيًا ونفسيًا، فما كان منهم إلا محاولات التكميم البائسة، من كلنا مررنا بهذا، رغم علمي بأنهن أتممن حملهن وولادتهن دون مضاعفات وعمليات جراحية متتالية.

 

لكن بحكم العادة لا بد من المزايدة، وأيضًا ما المشكلة أن لا تنامي بالأيام متواصل فكلنا مررنا بهذا. وأكتم في نفسي ردودًا من عينة لا لم تمروا بهذا، فلا يوجد بينكم من رزقه الله بصغيرين في ذات الوقت، ولديهما احتياجات لا بد من تلبيتها في نفس الوقت، ولا أملك إلا ذراعين وجسدًا منهكًا ومريضًا لرعايتهما، ومهما بذلت من مجهود إضافي لا سبيل لإشباع تلك الاحتياجات. أسكت ولا أفهم سر سؤالهم الدائم وتعمد الضغط عليَّ في السؤال، حتى أقر بتعبي وضعفي، فتجهز عليَّ إحداهن برد من عينة “الله يحفظهم.. الحمد لله” بتطاير غريب، كأن الله -بجلاله- سيأخذ مني أطفالي لمجرد بُوْحي بعجزي وتعبي وقلة حيلتي!

 

أي رب نقيس عليه ردود أفعالنا؟! أهو رب ضيق الأفق مثل محادثيني لا يميز بين السخط والفضفضة؟! أعهدتم منه أن يأخذ منكم غاليًا إذا أبديتم حتى السخط؟! لا والله، فإلهي رحيم لا يعبأ بكل هذه المهاترات التي يقوم بها البعض مع امرأة في أضعف حالاتها، الله لن يأخذ أطفالكم لمجرد الشكوى، فهو من وضع في أجسادكم محدودية القوة وفي قلوبكم الحزن والتعب وفي ألسنتكم الكلام والشكوى، فبأي ذنب سيصيب أطفالكم بمكروه! الله محبة.

 

دائمًا أستشعر بمحبته حتى وقت الضيق والإنهاك والشكوى، وما التميز الذي تجدينه عزيزتي في مقارنة نفسك بأم جديدة في صحة سيئة مع توأمين في حالة هزيلة؟! أي إنجاز تم في مكالمات ظاهرها حب وباطنها رغبتك في إثبات أنك الأم الأفضل؟! إنها ليست بحلبة سباق، إنها مشاعر إنسانية معقدة مرهقة تمتزج بين الفرح والحزن.

 

مر على هذا ثلاث سنوات، لكن وقع مرارته لا يزال في قلبي، ولم أقدر على نسيان أي أذي نفسي تعرضت له في تلك الفترة، كما أنني لم أنسَ أيًّا ممَن ساندوني ودعموني في تلك الفترة، ولو بكلمة رقيقة واحدة تطيب بخاطري وتمنحني أملاً وقوة، في وقت ظلامي أثقل روحي حتى صار وزنها طنًا، وأصبحت كلما أرى أمًا حديثة يلين قلبي وأرفق بها، فأنا أعلم أن جل مطالبها هو القليل من النوم المتواصل ووجبة واحدة مشبعة في اليوم، حتى لا تفقد إنسانيتها أثناء رحلة شاقة لا يهونها سوى أن نرى أطفالنا في حال جيدة وأن نرى التقدير في أعين من نحبهم.

 

لا داعي لتكميم أفواه الأمهات الجديدات، فلا هن ناقمات على نعم الله، وإذا كان هناك نقمة فدعوها للخالق والتزموا أنتم بحدود الإنسانية، ولا داعي أيضًا للمفاخرة بإنجازاتك، فهذا إن أشعرك بإنجاز صغير وبأنكِ أم أفضل فهو لم يجعلكِ إنسانًا أفضل أمام المسكينة التي تحمل رضيعها لأول مرة، وتتمنى أن تصمد فقط ليوم آخر دون نوم.

 

كأن الله سيأخذ مني أطفالي لمجرد بُوْحي بتعبي وقلة حيلتي

 

المقالة السابقةذكريات وقصص ختان مؤلمة: كم يستمر ألم الختان؟ وهل يمكن تخفيفه؟
المقالة القادمةالختان والوصم الجنسي للمرأة
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا