اليوم عرسي بعد سبع عجاف

1159

اليوم عُرسي نعم.. أكتب عن سبع سنوات عجاف يوم عرسي.. لأني راضية تمام الرضا عما يؤول إليه القدر. راضية عن كل ما أصاب حياتي منذ سبع سنوات إلى ذلك العام، بل إلى هذا اليوم، وتلك اللحظة تحديدًا. راضية عن الوعود الكاذبة، والأشخاص الذين خذلوني، راضية عن الحزن الذي آواني، والكلمات التي اختذلت، والصحف التي تقطعت، راضية كل الرضا عن الذين فارقوا الحياة وانتُشل معهم جزء من روحي، الجزء الفارغ كان مستعدًا لاستقبال الجديد، لهذا أنا ببساطة راضية.

لا يعرف الكثير أني سأتزوج اليوم من نفس الشخص الذي كنت سأتزوجه منذ سبع سنوات، ولكن قد يصيب القلب ضرر ويصبح أعمى البصيرة إذا لم يتزن اللسان ويترجم الإشارات المرسلة بدقة وبمساعدة العقل. قصتي تبدأ من طفلة ذات أربعة أعوام، حافية القدمين غير مهندمة الثياب منكوشة الشعر تسير في ردهة البيت سارحة في أوهامها الطفولية، حتى اصطدمت عيناها بساقيّ شاب طويل يكبرها بتسعة أعوام، داعبها بضحكة مرسلة فنظرت إليه باستحقار غير عابئة به وانصرفت.

يخبرني زوجي ضاحكًا كلما تذكر هذا الموقف أن هذه النظرة هي التي جعلت منه أسيرًا عاشقًا. مرت السنون وانقطعت الصلات نتيجة السفر خارج البلاد، حتى تغيرت الظروف وعادت الصلات مرة أخرى بين الأسرتين اللتين جمعت بينهما علاقة صداقة قوية. ومع أول لقاء.. لم تعد الطفلة ذات أربعة أعوام حافية القدمين، ولم يعد الشاب الصغير بإمكانه أن يرسل الضحكات دون أن تأخذ مسارًا آخر.

كان مسحورًا بها، ود لو يخبرها بما يُكنّ لها منذ أن رآها للمرة الأولى، ولكنه انتظر برهة حتى يلملم شتات أنفاسه المبعثرة إثر صدمة اللقاء الأول، والفارق بين الزهرة التي كان عمرها أربعة أعوام وأصبحت مزهرة برّاقة في الثامنة عشر، على حد تعبيره.

كنت في التاسعة عشر من عمري حين تقدم لخطبتي، وكنت في السنة النهائية في الجامعة، يكفيني أن أخبركم أنها السنة الوحيدة التي حصلت فيها على تقدير امتياز، هنا يمكنكم الفهم أن علاقتنا كانت سوية لأبعد الحدود، كان الرجل الوحيد الذي دخل حياتي فكنت أكنّ له الكثير. كنت أسميه حبًا.. وكان يبدو كذلك حين وقفت في حفلة تخرجي ألقي قصيدة عن الحب وعيني لا تفارق عينيه، ثم أشرت له في نهاية القصيدة ومع تصفيق الحاضرين الذين تشتت أعينهم بيني وبينه.

مر عام على خِطبتنا وما لبث أن تعقدت الأمور وتدخل الأهل واشتدت الأزمة، فانفصلنا، وكلما سألني أحد عن سبب الانفصال كنت أسرح قليلاً ثم أخبرهم بعين دامعة، لا أدري. يسألونني هل كان سيئًا، فأقسم لهم على حسن تربيته وأخلاقه، كان أمري عجيبًا.. حتى اعتدت على كلمة واحدة “ليس لنا نصيب معًا”. في الحقيقة لم يكن هناك أعدل من هذا القدر، مرت سبع سنوات، ولكني أسميها سبع عجاف، علمني فيها ربي كل ما يمكن أن يؤهلني لهذا اليوم الذي أرتدي فيه فستاني الأبيض وطرحتي البيضاء المزخرفة.

لم يكن باستطاعتي أن أتحمل مسؤولية بيت إلا بعد أن مررت بالعديد من التجارب. باءت كل محاولاتنا للارتباط بالفشل، كأن الله يدخرنا بعضنا لبعض، سألته لماذا لم يرتبط من بعدي، فأخبرني أنه حاول ذلك مرات عديدة، ولكنه كان يبحث عني في كل فتاة يراها ولم يجدني، وأنه مر بظروف قاسية، وتعثرت قدماه مرات ومرات، وأنه مر بضائقة مادية بعد الثورة، لا يعرف إلى الآن كيف كان سيمر بها لو كان لديه زوجة وطفل، هذا من لطف الله وكرمه علينا أن تجاوزت المحنة وحدي.

يسائلني بنفس السؤال، فأخبره أني حاولت ذلك أيضًا، ولكن تعثرت أموري في كل مرة حاولت فيها ذلك، وتعثرت قدماي أيضًا بأشخاص ليس لهم من الخلق نصيب، وصببتُ كل تركزي على معالجة الأقدار من محاربة المرض إلى تحمل مسؤولية البيت وحدي وتعلم فنون الدفاع عن نفسي وسط ذئاب الحياة.

ورغم أني لا أعرف كيف صمد سبع سنوات دون الارتباط بغيري، لكن يكفيني أني عالقة في ذكراه، وأنه احتفظ بدبلتينا والاسمين محفورين عليهما، وبكل ذكرياتنا معًا، ولم يتخلَّ عنها أبدًا، على غرار ما فعلت أنا. ورغم أنه لا يعرف من أين جاءته فكرة أن يتقدم لي مرة أخرى، ورغم أني لم أعد أكن له المشاعر، ولكني أكاد أقسم أني كنت أساق إلى القبول دون تفكير، سألت الله كثيرًا، وتحدثت إلى الورود والأزهار والشجر كلما مررت عليها، سافرتُ وجلست بين أحضان الجبال وحيدة أنتظر الرد، وكلما استخرت الله ازددت يقينًا واطمئنانًا، وكأن الله يدفعني إليه دفعًا حانيًا.

العبرة من قصتي تكمن في البدايات، البدايات التي قدرها الله، الله كان يدخر لنا الأفضل، كان يعلم أن خسارتنا في المرة الأولى لم تكن فادحة، فأبعدنا وأهّلنا للقاء الثاني، ثم أعادنا مرة أخرى لنكمل ما قد بدأناه منذ سبع سنوات بسهولة ويسر ورضا. أعادنا لأنه رحيم حانٍ، وليعلمنا درسًا لن ننساه وسنغرسه في أبنائنا على قدر استطاعتنا.. سنعلمهم أن اختيارات الله هي الأفضل، وأن الندمَ والحسرة ليس لهما معنى إذا كنا في معية الله.

وسنعلمهم أيضًا أنه:

قد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

المقالة السابقةلذة الانتقام بطعم “أم علي”
المقالة القادمة8 خطوات لتحصلي على قطعة القماش المثالية لتفصيل الملابس

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا