الكاتبات والوحدة 8: أروى صالح: الوقوف على ناصية الحلم

1784

في عمر السادسة عشر، اعتادت أروى صالح على كتابة مذكراتها. لم تكن أحلامها قد تبلورت لشكل محدد بعد، كانت مجرد أحلام عن وجود عالم مثالي، بلا ظلم أو تفرقة. طبيعة شخصية أروى النادرة تجعلها حساسة أكثر للهموم العامة، لا تتمكن من التنفس لو رأت فقيرًا غير قادر على كسب عيشه، تشعر بأنها السبب في معاناة عجوز مشرد في الشارع، أو مجذوب يهيم على وجهه، أو سجين مظلوم. وبالطبع شعرت بأنها المسؤولة عن نكسة وطن بأكمله.

هذا الشعور المتزايد بالثقل وحمل الهم هو ما جعلها تجد في الحركة الطلابية الماركسية ملاذًا بمجرد التحاقها بكلية الآداب، وهو نفس الشعور الذي دفعها للعمل بكل إخلاص ونشاط، إخلاص حقيقي للقضية، بلا أيّ دوافع شخصية، أو رغبات خفية. اشتركت في المظاهرات الطلابية، وشعرت أن حلمها يمكن أن يتحقق، بالذات عندما خرجت المظاهرات من أسوار الجامعة والمجتمعات الصغيرة المغلقة، لينضم إليها الشعب، “الناس العادية” كما يسميهم المثقفون، مطالبين النظام بالحرب ضد إسرائيل.

أحلام الحركة الطلابية

بعد انتهاء عام 73، تبخر الحلم الذي كان قد قارب على التحقق، معظم الرفاق تشتتوا مندمجين داخل النظام نفسه، واكتشفت أروى أن المنشغلين بالقضية لم يكونوا مخلصين تمامًا كما كانت تتصور. وبالنسبة لحالمة مثالية، لا يوجد درجات رمادية في طبيعة البشر، لا يمكن أن تتفهم الابتعاد أو الضعف أو اليأس بأي معنى آخر سوى الخيانة، فبدا العالم وكأنه فرغ من معناه، زخم الحياة، والانشغال بهدف واحد، والإخلاص لقضية محددة، كل شيء تبخر، تاركًا فراغًا مؤلمًا في قلبها. عزلة وصمت واكتئاب وإحساس عارم بالغدر.

سقطت أروى صالح من الدور الثاني عشر في عمر السادسة والأربعين، ربما تكون قد استعرضت خلال سقوطها شريط حياتها كاملاً، لم يكن فيه ما يمكن أن يجعلها تندم على القرار، اكتشفت أن كل ما كان يستحق العيش من أجله هو محض أحلام عاشتها لسنين طويلة، أحلام لم تتمكن من الاستيقاظ منها فعلقت بين عالمين: واقع قاسٍ لا يوجد به سوى خيبات وخذلان وخوف ووحدة، وعالم حالم مثالي لا يمكن أبدًا أن يتحقق.

أحلام الثورة المصرية

مشاعر أروى لا يمكن أن تكون غريبة أو غير مفهومة، لجيل كامل انغمس في حماس وطاقة وزخم الثورة المصرية عام 2011، في الـ18 يومًا التي تحولت فيها ساحة ميدان التحرير لساحة حرية حقيقية، عاش آلاف الشباب المصري نفس الحلم الذي عاشته أروى، حلم تحويل العالم إلى يوتوبيا، حلم العدل والمساواة والحرية الاجتماعية، والذي اتضح بعد ذلك أنه حلم عسير التحقق، أو ربما يمكن أن نقول، حلم غير متبلور، لم يتم تشكيله بناء على أسس منطقية، الأمر الذي أدى لتبخره وكأنه لم يكن.

الهروب من وسط البلد

في الفترة بين عامي 2003 و2010، كانت منطقة وسط البلد هي الملاذ لطبقة المثقفين الحالمين، كانت المقاهي في كل ركن، والتجمعات بمثابة متنفس لطاقة شبابية يمكن أن تنفجر. هذه الفترة التي عايشتها خلال دراستي الجامعية، ضبابية جدًا الآن، لا أذكر سوى حقيبة الظهر الخاصة بي التي أحمل فيها ديوان أمل دنقل، ورفقاء المدونات التي سطع نجمها بشكل ضخم قبل فيسبوك وتويتر، ومنها خرجت أسماء كبيرة في مجالات الثقافة والفن والسياسة.

أذكر أيضًا لمعان الأعين، والتطلع لعالم أفضل، أذكر الأحلام الكبرى والشعور بأن العالم قد أوشك أن يتغير، أذكر في نهايات عام 2010 وقبل أن أعتزل هذا الوسط تمامًا لفترة طويلة، كلمة صديق ونحن سائران في شارع محمد محمود، بأن الثورة اقتربت، وأن تونس لا يمكن أن تحقق ما نعجز نحن عن تحقيقه.

نبوءته صدقت فعلاً، وقامت الثورة بعد أشهر، لكن تمامًا كما حدث في السبعينيات، انقلبت الموازين، وتحطمت الأحلام، وأعيد كتابة الأحداث بشكل مثير للدهشة وكأننا لم نعايشها بأنفسنا. بات واضحًا أن التغيير ليس بهذه السهولة، الأمر الذي خلق المناخ الذي نعيشه إلى اليوم، والذي يمكن اختصاره في المنشورات اليومية على فيسبوك التي تعرّف المجتمع بمرض الاكتئاب، أو تنادي بأهمية ملاحظة علامات الرغبة في الانتحار، أو تطالب بإيقاف التنمر ونشر سياسة اللطف. يمكن ملاحظتها أيضًا في زيادة معدل العنف والقسوة، وفي العزلة. وفي الهروب من محيط وسط البلد، أولاً إلى الزمالك، ثم إلى البلاد البعيدة مثل دهب، إلى جانب الإقبال على طلب اللجوء إلى الخارج، والحلم بالهجرة.

تفهم الرغبة في الموت

لقد مسه الحلم مرة، و ستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها تبقى مؤرقة كالضمير وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية المؤلمة

هذه الجملة من كتاب “المُبتَسرون”. يمكن أن تكون بمثابة المفتاح لفهم اليأس والإحباط وزيادة معدلات الاكتئاب بين الجيل الحالي، الاقتراب من لمس الحلم يمكن أن يكون مميتًا، والتاريخ بالفعل يكرر نفسه. عندما انتحرت أروى صالح قفزًا لم يكن هذا لأنها كرهت الدنيا، أو أنها فقدت رفاقها وأحباءها، لم يكن بسبب خيبات عاطفية أو فقد عملها أو حتى أزمات مالية، بل كان ببساطة لأنها فرغت من الحياة. في رسالتها إلى صديق في الجزء الأخير من كتاب “المُبتَسرون”، تقول:

أنا بموت في الدنيا، لكن في اللحظة التي تفقد فيها الحياة الطعم بالنسبة لي، أفتكر إني مش هخاف من الموت، وبنفس القدر برضو، أفتكر إني لو استمريت بالإحساس ده، أقدر أموت عشان قضية، ساعتها الموت يبقى جزء لا يتجزأ من الحياة

فقدت أروى طعم الحياة إذًا، لماذا يمكن أن يعيش الشخص حياته بدون هدف، بدون شيء يمكن أن يستيقظ من أجله، ولو كان بسذاجة انتظار فيلم جديد، أو مقابلة صديق، أو قراءة كتاب أو حتى تذوق أكلة جديدة؟ يمكن أن نقول بأن فقدان الحياة ليس له سن محددة، المتقدمون في العمر يحدث بينهم وبين فكرة الموت تصالح تام، انتظاره أحيانًا بلهفة وكأنه صديق قديم، هذا ما حدث لأروى في سن مبكرة، لكنها لم تحب الانتظار فسارعت بنفسها لتحديد ميعاد اللقاء.

زينب المهدي أيضًا كانت حالمة، مسها الحلم في ميدان التحرير ولم تتمكن من التخلص من مشاعرها تجاه هذه اللمسة حتى بعد سنوات. زينب ليست الوحيدة، أعرف شخصيًا عشرات الشباب والشابات مثلها، لكن طريقة تفاعلهم من الحلم كانت مختلفة، ففي حين اختارت زينب إنهاء الأمر بسرعة والذهاب بنفسها لملاقاة الموت والبحث عن عالم جديد أكثر مثالية بعد أن اعترفت باستهلاكها عاطفيًا، اختار بعضهم الانعزال في قوقعة بعيدة، البعض قاطع السوشال ميديا والحياة العامة، والبعض انخرط في ملذات عنيفة وصارخة، البعض اتجه لمجال جديد تمامًا، والبعض هرب خارج البلاد، حتى أن بعضهم أغرق نفسه في قضية مختلفة مثل التحول للنباتية، أو الانخراط في الرياضة أو حتى المخدرات.

المثقف عاشقًا

خصصت أروى صالح جزءًا كاملاً من كتابها “المُبتَسرون” تتحدث فيه عن المثقف العاشق، عن علاقات الحب التي تنشأ بين الثوريين على مقاهي وسط البلد، وكيف تكشف هذه العلاقات عن جانب خفي في تكوين الشخصيات، الأمر الذي لا ينفصل عن مبادئ الحركة ككل، ولعله يكون سببًا مهمًا وأساسيًا في انهيارها.

فالفتاة التي تواعد مثقفًا على اللقاء لا تمني نفسها بنزهة فاخرة، أو حتى غير فاخرة، وإنما تتوجه إلى مقهى كئيب يشتري لها فيه فتاها المثقف كوبًا من الشاي المغلي المر، ويبيعها أحلامًا تقدمية لا تكلفه سوى أرخص بضاعته، الكلام. كلام لم يعد يعرف هو نفسه أين استقر موقعه الأخير من روحه.

خلال فترة انغماسي في مجتمع وسط البلد، صادقت الكثيرين من طبقة المثقفين التي تتحدث عنها أروى صالح في كتابها، وشهدت بنفسي أحاديثهم عن حرية الحب والعلاقات حول كوبي شاي على مقهى وضيع، نفس الحديث الذي يهدف لاستدراج “الرفيقات” لتحقيق مطامعهم الشخصية البعيدة تمام البعد عن أيّ قضية، مطامع لا تفكر سوى بالنصف السفلي، وتتجاهل العقل والخطب والأحلام.

انا أيضًا جلست على مقهى ذات يوم أحاول تهدئة صديقة بعد تجربة حب فاشلة مع مثقف ومناضل، يكفي ذكر اسمه لإذابة القلوب، كان يجلس معنا صديق يحاول بجهد أن يخرجها من هذه الحالة، كان هو نفسه محسوب على طبقة المثقفين، لكن يبدو أن رؤيته لها بهذا الشكل أيقظت إنسانيته، وجعلته يقرر الانكشاف التام كما فعلت أروى قبله في كتابها، أخبرها بأن أيّ شخص ينظر إلى طبقة ما بأنها أدنى منه، أي شخص يطلق على الناس كلمة “العاديين”، يتعالى عليهم ويتعالى حتى عن المشاعر الصادقة، لا يهتم سوى بإشباع حاجاته الجسدية Physical needs كما يحب المثقفون أن يطلقوا عليها، هو في حقيقة الأمر مجرد كيس قمامة كبير منتفخ بالهواء.

تجارب الحب “المثقفة” التي شهدتُ العشرات منها لم تكن سيئة جدًا، لأنها جعلتني أدرك حقيقة الوضع بسرعة، المبادئ لا تتجزأ، والإخلاص في حب الوطن لا يمكن أن يحدث إن لم يكن الشخص مخلصًا في حب شريكه، وهو المفهوم الذي يبدو أنه غريب أو غير مُقنع للكثيرين منهم.

كان حظي حسنًا لأنني عايشت عشرات القصص مع صديقاتي دون تورط، الأمر الذي خلق جدارًا عازلاً بيني وبين هذه التجارب، إلى جانب كوني من سكان الأقاليم، بعيدًا عن مركزية العاصمة وقسوتها، أما أروى فلم تتمكن من فهم هذه الحقيقة إلا بعد مرور سنين طويلة، وعندما أفاقت، وقررت أن تبدأ في التعرف على العالم الحقيقي، لم تتمكن من الاندماج، كان شعورها بالخوف من الناس “العاديين” الذين لا يعرفون حتى بأن ثمّة أشخاصًا يناضلون من أجل تحقيق العدالة والحرية لهم هو المسيطر عليها، فاكتفت بالانعزال، وكانت هذه بداية تسرب الحياة منها.

الانكشاف الأخير

كانت أروى قاسية في تصوراتها للنقاء، الشيء الذي جعلها تتعالى عن الحياة العادية، عاشت الحياة كحكاية أطفال لا بد أن ينتصر فيها الخير على الشر، كانت منحازة للطيبين، فلما اقتربت منهم لفظوها وتعاونوا مع الأشرار. ولأنها كانت بالفعل صادقة مع نفسها، وكانت قادرة على الانكشاف التام، قررت كشف المجتمع، وكشف نفسها أيضًا، في كتابها “المُبتَسرون”، ليكون إرثًا أو شهادة لأجيال قادمة، علهم يصلحون أخطاء الماضي، لكن النتيجة كانت أن لفظها الجميع، الناس العادية وغير العادية، الرفاق والأقارب وزملاء العمل، وكان من الطبيعي أن تُنهي وحدتها بقرار أخير حاسم.

في يوم 7 يونيو عام 1997، وضعت أروى صالح قدمًا على سور شرفة بناية في القاهرة، وفكرت للحظة إن كان ما ستفعله سيُحدِث صخبًا؟ أيّ صخب! أي تموجات على سطح البحيرة الراكد! لم تجد إجابة حاسمة، لكن هذا لم يوقفها عن وضع الساق الثانية، النظر إلى السماء للحظة، أخذ نفس عميق تودع به الدنيا، الدنيا التي تعشقها فعلاً. لكنها فقط لم تعد قادرة على العيش فيها.

اقرأ أيضًا: مي زيادة: لعنة الجمال والموهبة

اقرأ أيضًا: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة

اقرأ أيضًا: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد

اقرأ أيضًا: فاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة

اقرأ أيضًا: في أثر عنايات الزيات وإيمات مرسال ج1

اقرأ أيضًا: في أثر عنايات الزيات وإيمات مرسال ج2

اقرأ أيضًا: سوزان سونتاج:الهشاشة خلف جسد زجاجي

المقالة السابقةماذا لو خسرتك وكسبت نفسي؟!
المقالة القادمةالعنف ضد المرأة 1: حكايات ضحايا العنف الجنسي
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا