الرغم من سنوات عمري التي اقتربت من منتصف الثلاثينيات، وزواجي الذي كاد يُكمل عشر سنوات، وابنتي التي ملأت حياتي صخبًا والتهمت وقت فراغي بأكمله، فإنني ما زلت مُدمنةً لأحلام اليقظة التي اعتدت التشبث بها صغيرةً. رُبما أصبحت وتيرة أحلامي أقل، لكنها ما زالت تحتل الدقائق القليلة قبل نومي.
في تلك الأحلام أكون امرأة غيري، أجوب الأزمنة والبلدان، ومهما تغيَّرت تظل الحكاية التي أنسجها تحكي عن قصة حب “تسحلني” معها، فأنا أحب هذه النوعية من العلاقات، التي يبدو على طرفيها أن قصتهما لن تكتمل وعلى ذلك يُعاندان القدر ويُجازفان، مُراهنين على تَفَرُّد ما بينهما.
لهذا السبب على الأرجح وقعت بغرام مسلسل “ليالي أوجيني” فمن جهة يدور بحقبة ناعمة ومُختلفة، ومن أخرى مُتخم بقصص الحب المستحيلة التي تُشبه ذوقي، وتُناسب حِسي المُندفِع وتَهَوري بالحُب. وهو ما جعل أمورًا مثل بطء رتم المسلسل، أو التمثيل المتواضع من الأبطال الرئيسيين لا يشغلني، فأنا لم أُحب العمل لأنه الأفضل فنيًا، بل لكونه حالة لا أريد لها أن تنتهي.
عايدة/ فريد/ كريمة
“حُبي ليك.. عين الغلط.. متأكدة.. عقلي بيسأل قلبي ليه بعمل كده؟”
مثلث جديد في العلاقات، وإن كان مُختلفًا هذه المرة، إذ يقف المشاهد من جميع أفراده على نفس القَدر من المسافة، بدايةَ من “فريد” الطبيب الذي كان له أمنيات وأحلام فيما يخص المرأة التي سيختار إكمال حياته معها، لأنه يؤمن بأهمية الحُب والمشاعر بين الزوجين. رُبما ذلك ما جعله يظل وقتًا طويلاً دون امرأة بحياته، قبل أن يُتوفَّى أخوه الصغير فجأة تاركًا خلفه زوجة وطفلة على وشك الرحيل للخارج، والوسيلة الوحيدة لإبقائهما هي أن تتزوج الأرملة من أخ الزوج.
مرورًا بـ“عايدة”، تلك الأرملة التي تُحاول جاهدة أن تؤسس حياةً جديدةً مع الرجل الذي فرضته عليها الحياة، تظل تُقنع نفسها أن هذا الرجل الذي يسكن معها نفس البيت هو نصفها الثاني، حتى تقع بُحبه، أو رُبما توهِم نفسها بذلك، على أمل أن يصبح ثلاثتهم أسرة سعيدة.. ولو بالغَصب.
“هناك آلام لا يعلم الشخص إن كان سيُنهيها إذا كان لديه ذلك الاختيار.. لأنها آلام ممتعة”
وبالرغم من أن “عايدة” تبذل من جَهدها وكرامتها الكثير كي تفوز بقلب “فريد”، فإنه لا يستطيع أن يُبادلها نفس المشاعر، وإن كان يحرص على إخفاء جفائه وجمود قلبه تجاهها كي لا يجرحها، ليسقط هو بين شقي الرحى، دون أن يصبح بإمكانه البوح بمأساته لأحد. ويستمر الوضع على ما هو عليه حتى تظهر “كريمة” بحياته، تلك المرأة الغامضة التي تُخفي سرًا كبيرًا وتهرب من شيءٍ أكبر، والأهم أنها تسعى لحلم بعيد وصعب لكنها لا تُريد سواه.
“ذلك الألم الذي أخفته في قلبها واستطاع هو أن يراه، رُبما لأنه يُخفي ألمًا مُشابهًا”
هنا تُقرر الحياة أخيرًا أن ترفأ ببطلين من أبطال هذا المُثلث البائس والمظلوم، إذ تتكسَّر الفوارق والمسافات التي تجعل علاقة “فريد” بـ”كريمة” غير منطقية أو مستحيلة، ويجد كل منهما بالآخر مرآة تعكس أوجاعه التي يتجرعها في صمت، وإن كان كل منهما لا يُخبر الآخر عن تفاصيل ماضيه وأسباب حزنه، لكنهما ينجحا في التخفيف عن بعضهما، جاعلين الحياة أكثر قُدرة على الاحتمال.
“شكرًا على إنك موجودة.. في الحياة”
وبالرغم من أنهما يظلان لوقت طويل لا يُخبران بعضهما بعضًا بالمشاعر التي تعترم بصدورهما، مُكتفيان بتبادل الصباحات والكلمات على عجل، قانعين بأن ما في القلوب خيرٌ وأبقى، فإن الحب سرعان ما يصبح صاخبًا وجليًا، فيستسلمان للبَوح به.. تُرى أي ضلع بهذه الحدوتة سيكون له الغلَبة والحق بأن يستمر؟!
صوفيا/ عزيز
“هو لما الناس كلها مش عارفة، أومال مين بيعمل اللي هو عايزه؟”
“عزيز” رجل هادئ الطباع، شهم، حنون، لكنه لا يجرؤ على المواجهة حتى ولو كانت في سبيل ما يُحب، هذا العيب جعله يخسر حُب حياته، “صوفيا” الإيطالية الحسناء التي تُبادله المشاعر، وذلك حين لم يستطع الوقوف بوجه أمه التي رفضت ارتباطه بتلك الفتاة، حتى ولو كان ذلك سيكسر قلب ابنها للأبد.
“أنا مش شايفاه من أساسه.. من ساعة ما مقدرش يبص في عينيكي ويقولك آه أنا بحبها”
ولأن “صوفيا” قوية وتُحب الحياة، وضعت على قلبها حجرًا وأكملت حياتها، فرحلت وتزوجت وأنجبت، قبل أن تعود من جديد مُتاحة أمام نظر وقلب “عزيز”، وبالرغم من كونه لم ينسها يومًا وظل قلبه مُغلقًا على ذكراها، فإنه ظل عاجزًا عن المحاربة في سبيل حقه بالارتباط بامرأة أحلامه، ما جعله مَحل شفقة المرأة التي أحبته يومًا، فهو وإن كان جديرًا بالحب لكنه بسبب قلة حيلته صار غير موجود بنظر نفسه والآخرين.
نعمات/ صدقي
– مين يعرف يمكن حظك يصيب وتكسبي!
– أنا خلاص حظي صاب، وجودك جنبي بالدنيا وما فيها.
أسهم الحياة تُخطئنا مرارًا، لكنها حين تُصيب فإن المكسب قد يكفي، فيعوضنا كل خساراتنا الفادحة السابقة. لا أتحدث عن التعويض المادي بل عن الأُلفة والمودة، واكتشاف سحر الوَنَس وأهميته.
“الناس بجوهرهم مش بمنظرهم”
هذا هو حال قصة “صدقي بيه” صاحب الأوتيل الفخم، و”نعمات” التي اعتادت تنظيف الغُرَف، إذ يُصيب كيوبيد قلب كل منهما بسهامه فيستأنسان ببعضهما البعض، مُدركين بحكم النضج والتجارب السابقة أن ما يُكنَّانه لبعضهما هو التجارة الرابحة التي عليهما الاستثمار فيها، حتى ولو كان ذلك يعني أن يقفا بوجه المجتمع الذي رُبما لن يستوعب أبدًا قصتهما، ويُصر على ترجمتها باعتبارها نزوة عجوز وطمع مُطلَقّة فقيرة.
جليلة/ أمين
“هي الناس ليه بتختار تحب حد وبعدين تقعد تبَكِّت فيه على اختياراته وتحاول تغيَّر فيه؟ ما من الأول يا نختار حد شبهنا يا إما اللي مش شبهنا نسيبه في حاله!”
“جليلة” فتاة حُرة اختارت أن تتبع شغفها حتى ولو كان ذلك يَعني أن تعيش الحياة “بطولها” دون أهل أو سَنَد، فهي تعلم جيدًا أن ترك ما تُحب من أجل إرضاء مَن حولها سيدفنها بالحياة، أما “أمين” فشاب طيب رُبما يومًا ما يصبح زوجًا مثاليًا، لكن ذلك لا يمنع كَون سقف أحلامه مُنخَفضًا عن المرأة التي يعشقها، وقُدرته على التماهي مع اختلافها ضعيفة.
“فيه حاجات بتبان كأنها خساير وبتزعل عليها، لكن لما بتفكر بتعرف إن خسارتها مكسب”
وبالتالي حين خَيَّر “جليلة” بينه وبين ما تركت العالم بأكمله لأجله، اختارت الحلم، فكان الفراق، ليس أنانيةَ منها، بل لأن أي علاقة مهما بلغت قوتها لا يمكن أن تستوعب أحلامًا مُتناقضة، وطُرقًا تحمل كمًّا هائلاً من التضاد في سُبُل العَيش والمسعى، لذا رغم الجرح الغائر بقلب كل منهما، يومًا ما سيكتشفان أن خَط كلمة النهاية كان أفضل ما قدماه لبعضهما البعض.
“ليالي أوجيني”.. مسلسل يعرض لنا قصصًا عاطفية مُختلفة لا يجمع بينها سوى كَون احتمالات فشلها هي الأكثر توقعًا، وعلى ذلك سيكون من الرائع لو أن بعضها نَجَح ولم تُجهضه الحياة أو يُشوهه المُجتمع. أعلم أن من السذاجة قول ذلك، أو تَمنِّي ذلك، لكنني فعلاً أتمناه، وأُعَشِّم نفسي أن رغبتي تلك منبعها أن قسوة العالم لم تُسَوِّد قلبي كله بعد.. ليتها لم تَطَل قلوبكم أيضًا، فتتمنون المثل.