أتذكر المرة التي سمعتها فيها للمرة الأولى.. دقة الإيقاع وشدة الوتر في مدخل أغنيتها الشهيرة “مرايا الروح”، والصوت الذي لا يشبه صوتًا سمعته من قبل، صوت عذب، قوي وحُر. والكلمات الغريبة بالنسبة لي وقتها (في منتصف 2007 تقريبًا). كان اتصالي بالإنترنت عبر الهاتف الأرضي وقتها بطيئًا وكان عليَّ أن أسهر حتى وقت متأخر أنتظر تحميل كل ما استطعت الوصول إليه من أغانيها وقضاء أيام طويلة لا أستمع لصوت سوى صوتها. سحرني الصوت، وسحرتني الموسيقى التي استطاعت أن تحملني للسماء دون أن تنسى قدماي الأرض.
—-
بدأت ريم بنا (6 ديسمبر 1966 – 24 مارس 2018) رحلتها الفنية قبل استماعي إليها للمرة الأولى بسنوات طويلة، درست الموسيقى بموسكو وتخرجت في عام 1991 بعد قضاء 6 سنوات دراسية، أصدرت خلالها ألبوميها “جفرا” 1985، و”دموعك يا أمي” 1986.
قدمت ريم الأغاني التراثية الفلسطينية، وتهويدات الأطفال من الفلكولور الفلسطيني بتوزيع وأداء انفردت به. كما قدمت مجموعة محبوبة من الأغاني للأطفال، وغنَّت كلمات عدد من الشعراء، من بينهم توفيق زياد، ومحمود درويش، وسميح القاسم، ووالدتها زهيرة صباغ، وسيدي هركاش. وفي كل ما غنَّت كان السائد هو روح الأمل والمقاومة.
لكن روح الأمل والمقاومة تلك لم تكن مجرد رسالة فنية تقدمها في أغانيها، بل كانت أسلوب حياة ظهر واضحًا وجليًا في رحلتها مع مرض السرطان.
تعرفي على: الكوفية الفلسطنية وتاريخها.. ما هي قصة الكوفية الفلسطينية
تقول ريم بنا:
صحيح أن القدر أوقفني عنوة عند مفترق طريق متعثّر وصعب
كنت في مقتبل العمر.. 42 عامًا.. امرأة بكامل عنفوانها
لكني عشت بعد ذلك.. إلى الآن.. أجمل ما مر في عمري
شكرًا لـ”وعكة” مصابة بي
دفعتني لقلب الطاولة.. بل لتحطيمها
حفّزتني لأقول “لا”
وشجّعتني لاتخاذ قرارات مصيرية نشلتني من حياة تسير في موت بطيء
وها أنا الآن
في ذروة التجلّي
—-
في معركة صعبة، مع مرض قاسٍ لا يرحم، اختارت ريم أن تقاوم، وألا تتوقف عن المقاومة وإلهام الآخرين أيضًا. فعبر صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي اعتادت ريم بنا أن تبث الأمل لمتابعيها، من خلال نشر تأملاتها الأقرب إلى الشعر حول المرض والمقاومة، وكذلك الصور الفوتوغرافية رائقة الجمال التي سيطر عليها دائمًا ضوء الشمس والألوان الغنية.
وكذلك عبر حلقات برنامجها الأسبوعي القصير خاطرة في القاطرة. والذي أشارت في إحدى حلقاته أن السرطان بالنسبة إليها هو أشبه بالاحتلال، وهذا ما يمنحها القدرة على مقاومة المرض.
حين وقفت على قدمي هذا الصباح
وكابرت على وجع شديد أصابهما
ومشيت
كأني وُلِدتُ من جديد
أدركتُ أنّي سأتبع درب الورد.. لا درب الآلام
وعرفتُ أنّي ماضية مع الريح
كلما علوت على وجعي وابتعدت
في صراعها مع عدو قاسٍ اختارت ريم الانتصار للحياة، حتى في أقسى لحظة قد تواجه فنانًا، حين فقدت القدرة على الغناء نتيجة لإصابة في الأوتار الصوتية، لم تصمت ولم تفقد الأمل.
أملها لم يكن مزيفًا. فلم يقتصر ما تنشره ريم على رسم صورة مشرقة لأمل دائم اليقظة بلا غفوات، بل شاركتنا أيضًا لحظات إحباطها:
عبء على الجسد والوجع والروح
عبء على “أصدقاء متجاهلين” سقطوا في ملذاتهم.. وتسرّبوا من بين الأصابع كالهفوة
عبء على الأنفاس الضيقة
عبء على ليل لا يحتمل أرقًا مألومًا
عبء على الهواء وورد الشبابيك الذي لا أصل
عبء على درب الأحلام الذي لم تعد تطأه قدماي
عبء على الحب الذي يجعلنا كريشة طائشة خفيفة
عبء على الومضة مهما لمعت
عبء على العبء
وحدهم أحبتي مَن حولي لا يتذمرون
وحدهم أحبتي لا يفقدون الأمل ولا يكلّون
وأنا بين حد سيفين
في غيبوبة التأمل
أتدرّب على نهاية ساخرة
أستمع إلى موسيقاها الآن، وأراقب فيديو جنازتها الذي انتشر، وأتخيلها تهرب من قميص الجسد الرث كما ذكرت في إحدى تدويناتها الأخيرة:
حين أخلعه
سأهرب خلسة من بين الورد المسجّي في الصندوق
وأترك الجنازة “وخراريف العزاء” عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام.. مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة
وسأجري كغزالة إلى بيتي
سأطهو وجبة عشاء طيبة
سأرتب البيت وأشعل الشموع
وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة
أجلس مع فنجان المريمية
أرقب مرج ابن عامر
وأقول: هذه الحياة جميلة
والموت كالتاريخ
فصل مزيّف