كنوع من التمهيد، وقبل أن أقص خبرتي مع الطفلة التي فَتنها بُح صوتها، وفتنتنا. أقر أن الموسيقى بلورة صافية ترى العالم وتصله، بحر من سلام يبلع صوت الصارخين في الناس بلغة الحرب وتعاليمه، وأن الأغنية الأصيلة تستطيع اختراق ألف سقف شيَّده الخوف والظلمة، ببساطة وعظمة، وعلى أعتاب حضرتها أخلع خصومتي مع نفسي، وأرتدي صوت تولستوي هامسًا: “وحده الجمال.. سينقذُ العالم”.
“نهاد”* التي تصوغ أوجاعنا محبة منذ سبعة عقود وللآن، فاضت كينبوع بما يزيد على 800 أغنية، بصوت يزحف إلى دمنا يوزع على بيوتنا الفلسفة كالخبز، ويُنقي الخيال إن أصابه العطب. سيدعوها الناس “فيروز” وتظلُ على لسان دراويش لها “نهاد” معنى واسمًا. وحدهم يعرفون أنها تستطيع بمخارج ألفاظها أن تُخلص أيامنا المُبتلاة بالكوابيس، وتكسر كل وحدة شجية بغيث من بجعات راقصة.
إن حُرقتَ معنويًا وهُجرت من مواطن التعاطف ستجد صوتها بوداعة يفض الليل بقناديل وطيورالأمل، وإن راودتكَ صور العتمة بفعل ذكرى الماضي ستجدها قبة سماوية شفافة تبتلع ضباب الإحباط وتمنحك شجرة مضاءة بيقين الأغاني، وإن غمركَ الوجد بالهشاشة ستجدها قِبلتُكَ المبتغاة عندها كل الشِعر والراحة.
“فيروز” هي أطلسي الغناء، لا أدري كيف أمكنها الاستقرار في سيل المتضادات! كيف واجهت بصوتها العذب ملائكة الجنان وفرضت عليهم بلا أحجية رغبتها في أن تفتح بابًا من الملكوت على هذه البسيطة التى أصابها اللوث؟ كيف تتخلص من مخزون الزيف الذي أربكتنا قسوته، وتنسج بصبر عوامل رؤيا الحقيقة مُخاطرة بنورها؟ كيف تلوم الأحبة وتهدهدهم في تجلٍ واحد؟!
“فيروز” ريف حر لم يمسه نجس احتلال، تتضاءل أمام أخضرها الصحارى، نلجأ لسحرها، فلا يخذلنا عنبرها.
فنٌ حقيقي توَّجته “نهاد” بأداء وإحساس ينسى الزمان أن يمسَّه بشيخوخة، خلدت بعذوبتها قصائد كادت تُنسى، فصارت أبراجًا مضاءة فوق البحر.
بانسيابية تمزق النمط، تصنع فيروز المزاج الصباحي لكثر، يتشربون صوتها وفنجان قهوة مع الجريدة. وأنا مثلهم أرفعُ رايتها وردة تملؤها الحيوية كلما مسني العيد كشارة فرح، وأَتِيهُ -إن اجتاحني الوجع- في صوتها الذي يقترب من روحي حد البكاء.
قاموس طرقاتي التي مشيت عبر عمري تكتبه عني موسيقى فيروز، تجربة نموي ونضجي العاطفي، تسردها أغانيها لتقيني تلعثم من أصابهم الهوى، هي أول لقاء، بوح الحبيب، خجل المصافحة، مسافات “الزعل”، أجراس خطر الترك، وإقلاع طائرة الأصدقاء، الوداع الجميل، وهي عزاء وسلوى “الله كبير”.
صوتها ما زال ندى يترقرق كلما سعيت لباب رزق جديد، وعطر يفوح من الأرض كلما طالتني زخات التحديات. إن أصحبُ كتابًا في سفرة توقظ وردًا مجففًا طواه الكتاب بخفة ربيع، ويهب صوتها كل سطر أقرأ أفكارًا وتآويل جديدة.
خارطة إيماني تتخطى مراحل طفولتها عبر “قصيدة المحبة”** لمعتقد راسخ فيلتئم شكي، وأتواضع لأجنحة المحبة وبشاراتها.
أعرف الكثير عن هويتي حين يجذبني نور “فيروز” لأوطان تتجلى في حضورها، فأرى عطاء بلادي حين تشدو، ويؤلمني حنيني إلى أرضي في لحظات سكوت “أيقونة الشرق”.
قد نختلف أو نتفق على جودة اللحن أو الكلمة في كل أغنية لفيروز، لكن صوتها المخملي وحده قادر على لم الشمل وخلق اتفاق مسبق على ترجيح كَفَّة الجمال المتدفق من حنجرة “السيدة فيروز”.
ختامًا أصلي ليطيل الله عمر فجر الأحلام المشرق في صوت “فيروز”، ولتظل المحبة ظافرة.