“اسمعي يا باولا.. سأقص عليكِ قصة لكي لا تكوني ضائعة تمامًا عندما تستيقظين“.
هذا هو طوق النجاة الذي ألقته إيزابيل ألليندي الروائية التشيلية لنفسها ولابنتها ذات الأعوام الثمانية والعشرين الغارقة في غيبوبة إثر إصابتها بمرض خطير. اعتمدت المرأة على براعتها في الحكي وغريزة الأمومة، فأصبح استحضار الماضي هو تعويذتها السحرية التي نثرتها حول ابنتها لحمايتها من ضياع هويتها طول الـ500 صفحة، هي حجم الرواية التي تحمل اسم ابنتها “باولا”.
طوفان من ذكريات السيرة الذاتية، المتداخلة مع أحداث مرض ابنتها، ودخولها في غيبوبة استمرت لمدة عام. سيل من الحكايات المتلاحقة والمتداخلة التي تصل بنا في النهاية إلى حكاية واحدة كانت تتحاشاها الأم منذ شرعت في كتابة روايتها، وهي موت باولا.
“لقد أنقذ ذلك الكتاب حياتي، فالكتابة هي تفحُّص طويل لأعماق النفس، رحلة إلى أشد كهوف الوعي عتمة وتأمل بطيء“.
هكذا تحدثت ألليندي عن رسائلها التي كتبتها لجدها قبل وفاته، والتي اكتشفت أنها امتدت لأكثر من 400 صفحة، وتحولت إلى عملها الروائي الأول، هنا في باولا تكتب ألليندي رسالة طويلة من القلب إلى ابنتها، تطرح فيها مئات الأسئلة التي لا تعود بأي إجابات تشفي إحساس الأم المكلومة، أصعبها وقعًا هو سؤالها لها، “هل ستكوني المرأة نفسها أم سيتوجب علينا أن نبدأ بالتعارف كغريبتين؟ هل سيكون لديكِ ذاكرة أم سيكون عليّ أن أروي لكِ تفاصيل سنينك الثماني والعشرين؟ هل ستعرفين أنني أمك يا باولا؟!”.
يرافق ألليندي شعور الفقد منذ طفولتها المبكرة، فأبوها يهجر أسرتها الصغيرة وهي طفلة ذات ثلاثة أعوام، لتنتقل إلى بيت جدها لأمها “تاتا”، الرجل الذي ورثت عنه روح القتال والمثابرة، والذي طالما دعت الله أن تصبح مثله “غير مدينة لأحد”.
تتداخل المشاهد في الرواية بين مشاعر ألليندي الحكَّاءة وهي تحكي عن نفسها في الطفولة والمراهقة والشباب، وحياتها العاطفية والاجتماعية والسياسية، كل تلك التفاصيل المليئة بالشغف والحب واليأس والانتصارات والهزائم، ومشهد واحد على ثباته، إلا أنه مليء بالصخب والألم، مشهد باولا في غيبوبتها.
“لقد كتبت قبل إحدى عشرة سنة رسالة إلى جدي أودعه وهو يموت، وفي هذا الثامن من كانون الثاني 1992، أكتب إليكِ يا باولا لكي أعيدك إلى الحياة“.
عاشت ألليندي جزءًا من حياتها في لبنان، حيث انتقلت إلى هناك بعد زواج أمها من “العم رامون” الدبلوماسي التشيلي، الرجل الذي قدم لها الدعم غير المشروط وأثَّر في الكثير من جوانب شخصيتها. هناك قرأت كتاب “ألف ليلة وليلة” كاملاً، حيث كانت شهرزاد تمنع شبح الموت عنها بحكاياتها الخيالية لشهريار، الأمر الذي فعلته ألليندي مع الموت نفسه لتبعده عن باولا، فشرعت في تسجيل ذكرياتها، كأنها كانت تراوغه بالحكي وتلهيه بعيدًا، فتُحصِّن ابنتها منه ونفسها من شبح الفقد.
في لقاء صحفي معها قالت ألليندي إن أمها لامتها على إفشاء الكثير من أسرار العائلة للعامة، إلا أنها كانت ترى أن ما فعلته لم يكن سوى محاولات مستميتة لاستعادة ابنتها من الظلام الذي دخلته، طمعًا في انتصار الأمل على معطيات المرض القاسية.
يأخذنا النصف الثاني من الرواية إلى الحقيقة الصادمة، أن باولا لن تستيقظ أبدًا ولن تقرأ شيئًا، لكن الأم لا تتوقف عن الكتابة، تلقي بالذكريات أمامنا كأنها تريد أن توقف عجلة القدر التي تدور مسرعة باتجاه الموت، فكتبت عن فقدان الوطن عقب الانقلاب العسكري الذي حدث في تشيلي، وخروجها للمنفى، وعن جذورها التي اقتُلِعَت من موطنها الأصلي، وعن طلاقها من زوجها الأول وخسارتها لشخوص شاركوها رحلتها، كأنها تمرر لنفسها حقيقة واحدة فقط، أنها امرأة خُلِقَت لتختبر شعور الفقد في مواطن عدة، فتعتاده، إلى أن تتلقى الضربة في أحد أبنائها، فتدرك أنها لم تعرف الفقد من قبل.
تكتشفت أنها تحولت إلى امرأة أخرى بفضل باولا، التي أعطتها فرصة للنظر في أعماقها واكتشاف كينونتها الجديدة، التي ما كانت لتصل إليها إلا عبر اجتياز هذا الطريق الصعب من الترقب والخوف والقلق.
“موتي يا ابنتي“.
تتصالح الأم مع فكرة الموت، وتدرك أنه مخرج ابنتها الوحيد من غيبوبتها التي استغرقت عامًا تُدوِّن ذلك وتُعلنه للآخرين، تحاول أن تستدعي الموت ممن سبقوها إلى العالم الآخر، تنادي جدها القوي “تاتا” وجدتها البصيرة “ميمي” ليساعدا باولا على اجتياز عتبة الحياة والولادة في الجانب الآخر، لتودِّع ابنتها بشيء من الهدوء والحكمة.. “وداعًا يا باولا المرأة.. أهلاً يا باولا الروح”.
كيف سأصبح عندما أبلغ الستين؟ كم من الوقت سأحتاج لأجتاز هذا النفق المظلم؟
تُصرِّح ألليندي بأن في كل كتاب لها هناك نساء قويات يتغلبن على عوائق عظيمة لكي يكتبن أقدارهن بأنفسهن، في الحقيقة إن ألليندي واحدة من هؤلاء النساء المحاربات، خمسة وعشرون عامًا مرت على وفاة باولا، لم تستسلم ألليندي خلالها، قاتلت مُتسلِّحة بالحب والشغف، انخرطت في العمل التطوعي، وواصلت الكتابة، أنتجت 13 رواية تحوَّل بعضها إلى أفلام، وعبرت هذا النفق المظلم.