(1) المرأة والجنس.. وأصل المعركة
في كتابها الرائع “المرأة والجنس”، تتحدث الدكتورة نوال السعداوي عن الختان قائلة: “وكما كان العبيد يُخصون لتُفرض عليهم العفة وهم يخدمون حريم السيد، فقد كانت النساء في مجتمعنا، وفي كثير من المجتمعات الأخرى، تُجرى لهن عملية جراحية أشبه ما تكون بالإخصاء، لفرض العفة عليهن.
فما أن تبلغ البنت التاسعة أو العاشرة من عمرها، وقبل أن تبدأ مرحلة البلوغ، تأتي تلك المرأة المسماة بالداية، وتمسك الطفلة من ساقيها كما تمسك الدجاجة قبل الذبح، وتستأصل بالموسي البظر”.
ثم وصفت السعداوي بشاعة الجهل المرتبط بهذه العملية: “وكثيرًا ما استدعيت لإنقاذ حياة بعض البنات إثر هذه العملية البشعة، فقد كانت الداية لجهلها ولاعتقادها أنها إذا ما أوغلت بالموسي في لحم الفتاة، واستأصلت البظر من جذوره، فإن ذلك يضمن عفة الفتاة، وزهدها الأكبر في الجنس”.
أما عن أهمية العضو المستأصل في عملية الختان، تحدثت السعداوي في فصل آخر من كتابها قائلة: “ولا شك أن البظر (عضو المرأة التناسلي الخارجي)، هو أكثر أعضاء المرأة حظًا من الجهل والتجاهل والإهمال، وفي بعض الأحيان ينظر إليه المجتمع نظرة عداء، ويستأصله بالمشرط كما تُستأصل الزائدة الدودية”.
وفي فقرة تالية توضح أحد أهم دوافع المجتمع للإصرار على ختان الإناث، إلى حد تحويل القضية إلى معركة ضارية للضغط على الأهل، حيث فسرت ذلك بأن المجتمع قرر أن دور المرأة الوحيد في الحياة هو الإنجاب وخدمة الزوج والأولاد، وبناء عليه يجب حرمانها من اللذة التي قد تشغلها عن هذا الدور الذي رُسِمَ لها.
(2) حرب باردة
في الحي الشعبي الذي كنت أقطن به في بداية زواجي، لم أندمج مع الجيران، سوى تلك المرأة الأربعينية الطيبة، تعليمها المتوسط لم يمنعها من تربية أبنائها (شابين وفتاة) بشكل جيد، وطيب مثلها.
في أحد الأيام طلبت مني زيارتها، أخبرتني أنها بحاجة إلى رأيي في أمر مهم.. بنت السيدة الطيبة وصلت لسن الختان، وبدأ أهل الأم والأب في “الزن” المستمر والمستميت من أجل طهارة و”تطهير” تلك المسكينة الصغيرة من عضوها التناسلي الذي خلقها الله عليه.
السيدة الطيبة ليست في حيرة بشأن إجراء العملية نفسها، فهي تدرك جيدًا بشاعة الأمر، وترفض إخضاع فتاتها الوحيدة لقوانين المجتمع الجائرة، فأين الأزمة؟!
الأزمة كانت في عدم قدرة السيدة الطيبة على مواجهة العائلتين، الأمر الذي قد يشعل خلافات كبيرة، ويلحق وصمًا أبديًا بابنتها، وغالبًا كانت ستنتهي المعركة بإجراء العملية للفتاة، سواء بإجبار الأم أو بدون علمها.
توصلت السيدة الطيبة أخيرًا إلى خدعة لإنقاذ ابنتها.. شرحت الأمر للفتاة الصغيرة التي كانت لم تصل إلى عامها العاشر بعد، واتفقت معها على أن يخبرا العائلتين بأن العملية قد أُجريت بالفعل، وهذا ما حدث.
اضطرت السيدة الطيبة بالاشتراك مع ابنتها إلى الكذب، ولكن على حد قولها: “أنا عارفة أنا أقدر على إيه، ومقدرش على إيه.. مكنتش هقدر أقف قصاد الكل.. كذبت آه.. بس عشان مصلحة بنتي.. وربنا هيسامحني.. ربنا بس اللي بيسامح”.
(3) ذات.. والابتزاز العاطفي
في مسلسل “بنت اسمها ذات”، أُلقي الضوء مرتين على قضية ختان الإناث، مرة حينما مرت بطلة العمل في طفولتها بهذه التجربة الأليمة، والأخرى حينما قاومت إصرار والدتها على إجراء عملية الختان لابنتيها.
في البداية قاومت “ذات” بإصرار، ما أشعل غضب الجدة، وجعلها تقاطع ابنتها بعد أن هددتها بأن ابنتيها سوف تدوران على حل شعرهما.
ثم جاء احتمال إصابة “ذات” بسرطان الثدي، الأمر الذي أصابها بضعف، وجعلها بحاجة إلى والدتها، مما جعلها تفكر في الخضوع أمام رغبة والدتها، وتسمح بإجراء العملية للبنتين، طمعًا في رضا الجدة.
في المسلسل، استعادت “ذات” قوتها بعد أن علمت أنها غير مريضة، ورفضت ختان ابنتيها مهما كان الثمن.
ولكن في الواقع، كم أسرة خضعت للابتزاز العاطفي من الجدة أو العمة أو الخالة، أو غيرهن، وأخصت فتيات في عمر الزهور، من أجل إرضاء الأهل؟
(4) معارك ناجحة.. ولكن!
إحدى قريباتي أخبرتني عن زيارتها الأخيرة لأهل زوجها في صعيد مصر، أسرّت لي أن أهل الزوج طلبوا منها إجراء الختان لطفلتها التي تخطت العاشرة ببضعة أشهر، ولكنها أخبرتهم بحزم أنها لا توافق على هذا، وأنها لن تسمح بإجراء هذه العملية لابنتها.
مفتاح النصر هنا كان قوة شخصية الأم، وتفويض الأب للأم في القضايا الحيوية التي تخص ابنتهما، مما جعل الانتصار في هذه المعركة محسومًا. ويأتي السؤال هنا: كم معركة ينتصر فيها مستقبل الفتاة، في مقابل ضغط المجتمع للتخلص من رغباتها الفطرية وطبيعتها الأنثوية؟
(5) من الخاسر؟
في كل مرة تُجرى فيها عملية ختان لفتاة، سواء كانت باقتناع أهلها، أو عبر خضوعهم أمام ضغط المجتمع، يكون الخاسر الوحيد الفتاة، هذا أمر مفروغ منه.
ولكن في حال التصدي لهذا الضغط المجتمعي، أو التحايل عليه لإنقاذ الفتاة، ماذا يخسر المجتمع؟! ماذا تخسر الجدة أو العمة أو الخالة؟! من يخسر لأن هناك إنسانًا لم يُستأصل جزء من جسده؟! وإذا لم يكن هناك خاسر، فلمَ كل هذه المعارك من الأساس؟!
الإجابة هي “المرأة والجنس”.