“من رحم المعاناة يولد الإبداع”.
عبارة رغم بساطتها لكنها ملخصة للحال في فلسطين بشكلٍ عام، وقطاع غزة بشكلٍ خاص. باعتباري واحدة من سكان القطاع المنكوب بويلات الحروب المتعاقبة أستطيع أن أؤكد صدق هذه العبارة، فقد أصبح الإبداع في غزة حالة عامة، وليس حالات فردية، فأن تعيش في ظروف معيشية صعبة للغاية وتظل قادرًا على العطاء والإنتاج لهو عين الإبداع.
في فلسطين قدرتك على النجاة من بين فكي الموت إبداع، قدرتك على الحياة من بعد النجاة إبداع، قدرتك على انتزاع الأمل من قلب الألم إبداع. في فلسطين يتحول الإبداع إلى ملحمة يشارك فيها الشعب الفلسطيني بأكمله. واليوم في مقالي هذا أريد أن آخذ بيد القارئ ليشاهد معي ثلاثة مشاهد من هذه الملحمة المستمرة على الدوام.
المشهد الأول: لوحات الدخان
حرب غزة عام 2014، خمسون يومًا من الموت عايشتها بنفسي، حرب شرسة غير متكافئة صبت فيها إسرائيل حمم أسلحتها على رؤوسنا، بيوتنا، أحلامنا. كانت القراءة هي وسيلتي الوحيدة للفرار من فكرة أني قد أموت ما بين لحظةٍ وأخرى، وفقاعة أحبس نفسي داخلها عن ما حولي من ويلات. قرأت كثيرًا في أيام الحرب في محاولةٍ للتغلب على الخوف الذي كان يكبلني، أو لتشتيت انتباهي عن صوت طائرات الاستطلاع المحطِّم لأعصابي، فلطالما كانت هذه الطائرات نذير الشؤم الذي يوحي بوقوعٍ كارثةٍ، حتى اقترنت في ذهني بملاك الموت ذي المنجل. قرأت كثيرًا لتختفي صورة الملاك من ذهني، ولأصم أذني عن أصوات الانفجارات المتتالية لغارات جيش الاحتلال على آلاف البيوت الغزاوية التي تحولت لركام ترقد تحته الأجساد والأحلام.
ورغم الموت المحلق في كل مكانٍ، استطاع بعض الفنانين التشكيليين في غزة تحويل الدخان المتصاعد من البيوت الغزاوية المنكوبة بفعل الغارات الإسرائيلية إلى لوحاتٍ فنية عظيمة، تُظهِر معاناة الفلسطينيين من ناحية، وترسل للعالم عدة رسائل من ناحيةٍ أخرى. فقد أراد أولئك الفنانون من خلال لوحات الدخان أن يظهروا للعالم صورة لأحلامنا البسيطة في مقارنة مع واقعنا المؤلم، وأن يعبروا عن أوجاعنا بوسيلةٍ مبتكرة تظهر أننا شعب يخلق فنه وإبداعه من قلب الموت والدمار. في الوقت نفسه حملت هذه اللوحات رسالة واحدة للشعب الفلسطيني، رسالة تقطر بالأمل تخبرهم أننا سننتصر.
الفنانون في غزة رأوا في كتل الدخان السوداء ما لم يره الآخرون، فاستطاعوا ببعض الخطوط والمنحنيات تحويل هذه الكتل للوحاتٍ فنية لطفل يحمل شقيقه، امرأة فلسطينية تحمل طفلها، رجل فلسطيني يلاعب طفله، شيخ عجوز يحمل في عينيه وجع الدنيا، أو كف ترفع شارة النصر. انتشرت لوحات الدخان في العالم أجمع، فكانت مقاومة من نوع آخر ضد همجية العدوان الإسرائيلي، وانتصارًا فنيًا يجعل الفلسطينيين مبدعين من طرازٍ خاص.
اقرئي أيضًا: الكوفية الفلسطنية وتاريخها.. ما هي قصة الكوفية الفلسطينية
المشهد الثاني: مجسمات الرمال
دائمًا ما أقول إن البحر لا يدير ظهره للغزاويين أبدًا في الوقت الذي احترف العالم فعل ذلك. البحر احتضن العديد من المواهب وسمح لهم بكل محبةٍ أن يستخدموا موارده، فكان النحت على الرمال وسيلة فنية أخرى للمقاومة الإبداعية في غزة.
النحت على الرمال كان وسيلة العديد من المواهب الفلسطينية الشابة في التعبير عن أحلامهم وطموحاتهم، والتفاعل مع القضايا المحلية والعالمية المختلفة من خلال تحويل رمال البحر إلى مجسمات فنية، تكاد من فرط روعتها أن تنطق. هذا الفن العظيم لا تزيد أدواته عن رمال البحر، والقليل من مائه، وأداة حادة تساعدهم على تشكيل ونحت حبيبات رمال بحر غزة الخشنة، التي لولا الموهبة الفذة لأولئك الشباب وصبرهم الذي يمتد لساعاتٍ وساعات لصنعِ مجسمٍ واحد ما كانت تحولت هذه الرمال إلى تلك اللوحات الفنية الرائعة.
هناك العديد من المجسمات التي صُنعت على شاطئ بحر غزة، جاء معظمها معبرًا عن القضية الفلسطينية وأوجاعها المختلفة، ومن أهم هذه المجسمات: “خارطة فلسطين، الأقصى لنا، حمامة السلام، أغيثوا غزة، الحرية لأسرانا، مفتاح العودة”، وغيرها من المجسمات الوطنية المختلفة. إلى جانب ذلك تفاعل نحاتو الرمال مع قضايا عالمية مختلفة، كان آخرها قضية اللاجئين السوريين من خلال صنع مجسم للطفل السوري الغارق على شواطئ تركيا “إيلان”.
رمال غزة الذهبية فجرت موهبة العديد من الشباب الغزاوي المحاصرة أحلامه وطموحاته، فجاء النحت على الرمال مقاومة فنية فريدة من نوعها للسجن والسجان، ورسالة للعالم أجمع أن الإبداع الفلسطيني لا يُسجن ولا يُحاصر.
المشهد الثالث: لوحات الصبار
في هذا المشهد أترك قطاع غزة وأسافر للضفة الغربية، وتحديدًا مدينة نابلس الباسلة، حيث يعيش الفنان الفلسطيني الشاب “أحمد ياسين” الذي خرج عن المألوف وترك ألواح الرسم المعتادة، ليرسم على جذوع نبتة الصبار (التين الشوكي) التي تمتلئ بها البيئة الفلسطينية.
“أحمد” الذي يدرس في كلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية، استطاع أن يحول جذوع الصبار -رغم أشواكها- إلى لوحات فنية تحكي معاناة الفلسطينيين وصبرهم وصمودهم أمام الممارسات الإسرائيلية الظالمة. سر اختيار “أحمد” للصبار لا يرجع لكونه منتشرًا حوله فحسب، بل لأن في الصبار رمزية تعود على الشعب الفلسطيني، فالصبار لديه القدرة على مقاومة الجفاف وتقلبات الطقس، وكذلك الفلسطيني قادر على مقاومة أي ظلمٍ يُفرض عليه، وكلاهما له أشواكه الخاصة التي يبرزها في وجه الخطر.
أشهر ما رسم “أحمد” على جذوع الصبار، لوحة لسيدة فلسطينية مسنة تعبر ملامحها عن الأسى والوجع، تمد يدها حاملةً ثمرة صبار، في إشارة إلى الصبر على الوضع الفلسطيني الحالي، بينما تحمل في اليد الأخرى مفتاح العودة، في إشارة أخرى لعدم نسيان حق اللاجئين في العودة لقُراهم ومدنهم التي هُجّروا منها عام 1948.
“أحمد ياسين” نموذج للإبداع الفلسطيني الذي يعرف كيف يُسخر كل ما حوله ليخدم مبادئه وقضيته، موقن أن الجمال والفن وسائل فعالة للمطالبة بالحق، وبأن فرشاة الرسام لها فعل البندقية.
إذا لم تكفِ هذه المشاهد الثلاثة لتعطيك تصورًا كاملاً عن ملحمة الإبداع الفلسطيني التي لا تنتهي، فلربما تفعل قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش “ونحن نحب الحياة” التي أريد أن أختم بها مقالي.
وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطًا لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَارًا جَمِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتًا سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ
وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَرًا، أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ، أَوْضِحْ قَلِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا