عندما تكون العزلة من مظاهر الحياة

838

بقلم: ياسمين غبارة

أحب أن أفكر فى العزلة على أنها مرحلة صيانة، كتلك التي نقوم بها للسيارة عندما تسير عددًا معينًا من الكيلومترات، عدد يرى مُصنِّعُها أنها  ستحتاج بعده إلى وقفة ونظرة ومراجعة لكل ما تتكون منه السيارة، حتى تظل قادرةً على أداء دورها بكفاءة، ولكننا -وإن كنا نهتم بصيانة سياراتنا ومنازلنا- نهمل صيانة أنفسنا بما تحتاجه من العزلة والهدوء والراحة، فأصبحنا نجد بشرًا يسيرون على الأرض بأنفاسٍ متقطعة  لاهثة، يسيرون بقوة الدفع بين شعاب الدنيا والمعاش والحياة. قالوا عن العزلة إنها “بيت السلام “، وأعتقد أن طلب الوحدة والعزلة هو مطلب طبيعي تطلبه النفسُ بشكل عابر أحيانًا، وبشكلٍ حاد ومُلِح في أحيان أخرى.

ولكن ما هي العزلة بالتحديد؟ وهل لها أشكال مختلفة؟

هناك مثلاً من ينعزل فترة عن العمل وزملاء العمل، وتكون هذه راحة له من شخصية بداخله يستحضرها ويبذل جهدًا في أن يكون عليها في العمل، وأيضًا راحة له من تعاملات مع بشر قد لا يجد في معرفتهم خيرًا، ولكنه مضطر للوجود والتواصل معهم. وهناك عزلة أخرى تكون عن الأهل، عن أولئك المقربين، وتلك قد يحتاجها الإنسان عندما يكون مُطالَبًا بمسؤوليات كثيرة تجاه أسرته، مسؤوليات مادية وجسمانية ونفسية مستمرة ومُرهقة، وهي عزلة قد تتحقق بالسفر بعيدًا مكانيًا، أو بالسفر النفسي والانزواء ولو لساعات قليلة، ويكون محظوظًا من لديه أسرة تعطيه تلك المساحة وتقدر حاجته لعزلة يومية أو على فترات.

اقرأ أيضًا: الكاتبات والوحدة 3: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد

أنواع العزلة

هناك نوع آخر حديث من العزلة، ويكمن في البعد عن الأجهزة، عن تلك الدواخل الجديدة على النفس البشرية، دواخل تملك كارتًا أخضر لتمر وتؤثر على أنفسنا في أي وقت وأي مكان، هي عزلة عن الموبايل، عن مواقع التواصل، عن الفيديوهات والبرامج وقنوات اليوتيوب والتليفزيون، عزلة عن العالم الإلكتروني بكل ما فيه، وهي عزلة قد نحتاج إليها كل فترة حتى ننظر حولنا وبداخلنا، حتى نتواصل مع أنفسنا بشكل أعمق، ونضع رصيدًا في علاقاتنا ودوائرنا في الحياة الواقعية التي قد نكون غبنا عنها لفترة، بوعي أو بدون وعي.

العزلة بالنسبة لي هي أمرٌ ملحٌ وضروري، أحتاج إليه دومًا، وعلى فترات قريبة، بسبب فكر دائم داخل عقلي في كل شيء وأي شيء، فكر قد ينفع وقد يضر أحيانًا، فأحتاج إلى العزلة لأنقد فكري وأطرد ما هو طالح وأحتفظ وأتأمل في ما قد يكون نافعًا، فكما قال دوستويفسكي: “العزلة هي زاوية صغيرة  يقف فيها المرء أمام عقله”، وهذا يجعلني أقدر وأحترم العزلة كثيرًا، وألتزم البعد عن المساحة الخاصة بكل شخص، لأن هذه المساحة معناها أنه شخص “مصحصح”، لديه درجة من الوعي والملاحظة، تجعله لا ينخرط في خرّاط الحياة بسهولة، ولا يُساق إلى ما يُساق إليه البشر دون رجعة ووقفة ونظرة، شخصٌ مهما انجرفت به الحياة سيأتي له وقت ويعاود اتزانه.

وإذا كانت العزلة الدائمة هي مؤشر لاضطرابٍ نفسي ما، فإن العزلة على فترات هى دليل على الصحة النفسية، دليل على أننا ما زلنا نحمل  أرواحًا طيبةً سليمة الفطرة، وحتى إذا كان محتوى تلك العزلة هو مجرد شرود خالٍ من الفكر، فالشرود هو تمرين لعضلة الخيال التي افتقدناها وأصبح صعبًا أن تستخدم في حديثك مع أي شخص كلمة  “تخيل”، فكل شيء أصبح ممكنًا، وكل ما كان لا يمكن حدوثه أو صدوره من البشر حدث، كل رفاهية تخيلنا وجودها أصبحت واقعًا أو على وشك ذلك.

اقرأ أيضًا: 5 خطوات للمحافظة على صحتك النفسية

لماذا نحتاج العزلة؟

هل يكون غريبًا أن نحتاج فترات من الصمت والبعد عن كل شيء، فقط لنستوعب ما يحدث، لنجد خيوطًا تربطنا بصمام أمان أرواحنا؟ فنفوسنا محدودة، ومهما تحملت لها طاقة، والعزلة تمدنا ببعض طاقة، وتعيد لنا التوازن والسيطرة على ما حولنا، العزلة تذكرنا بأننا نحن الأساس، وكل ما يحدث هو يحدث لنا ومن حولنا ولكنه ليس نحن، العزلة تذكرنا بأننا نستطيع أن نختار مكاننا مما يحدث، نستطيع أن نفرق بين الحق والباطل مهما اختلطت الأوراق وازدحمت ساحة الدنيا، نستطيع في لحظات العزلة أن نتذكر أن هناك من فوقنا سماء بنجوم مضيئة، وقمرًا وهّاجًا حجبته عنا أضواء الشاشات وأسقف السيارات، نستطيع أن ننظر للسماء ونتذكر أن هناك ربًا خلقها ورفعها فوقنا، وأن هذا الرب موجود منذ بدء الخليقة وما قبلها إلى نهاية الدنيا وزوال السماء وما بعدها.

العزلة هي اقترابٌ من الحقيقة، ومن لا يطلب العزلة ولو لساعة فهو غافلٌ مع سبق الإصرار والترصد، هو خائف من شيء بداخله لا يريد أن ينفرد به.. العزلة هي حق لكل إنسان، حق أصبح صعب الوصول إليه، لأن من يقتحمك الآن ليس فقط بشر، ولكنها كيانات إلكترونية عظيمة، البعد عنها لفترات يحتاج إلى إرادة وتصميم وليس مجرد طلب.

اقرأ أيضًا: هكذا أحببت العزلة

المقالة السابقةخلي بالك من زيزي: كل شيء يبدأ من الطفولة
المقالة القادمةنوستالجيا: عندما غلبني الحنين للماضي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا