بقلم: روكسان رأفت
المرة الأولى
كانت دي المرة الأولى من فترة طويلة اللي أسمع فيها صوتي. أفتكر وقتها أني مكنتش حاسة بالشفقة ولا الرثاء على نفسي، مكنتش حاسة أني غلبانة أو مستكينة. رغم أني جربت الشعور ده لسنين. يومها وقفت كده، وأخدت خطوة لورا، وافتكرت أحمد حلمي في فيلم “اكس لارج”؛ لما قال: أنا مش جعان .. مش جعان! .. كان موقف يبان صغير قوي، مفيهوش تحدي كبير زي مواقف تانية.
كل الحكاية أني تكلمت عن نفسي مظبوط، قُصاد حد أنا أحبه علَّق لي تعليق ماتبسطتش منه.
أفتكر وقتها قلت لنفسي: “أنا حاسة أني باقف في صفك”. ما أصل أنتم متعرفوش الموضوع كبير ازاي!
سنين وأنا أحاول أسمع صوتي، أعرفني، أشوفني على حقيقتي؛ أشوفني من غير صوابع بتشاور على الوحش، ومن غير مصمصة شفايف تحسسني بالصعبانية والغُلب.
سنين وأنا أتعلم أقول: “أنا مش صغيرة، أنا كُفء .. أنا مش عنيفة، بس أقدر لو استدعى الأمر! .. أنا مش غبية، بس أسكت بمزاجي! .. أنا فاهمة كل حاجة، بس أختار اللي يعجبني .. أنا حلوة، شاطرة، أفهم بس أنتم اللي متعرفونيش.
للأسف، السر الخطير اللي عايزة أقوله لكم: أن محدش قاللي ولا جُملة من الجُمل اللي أنا كاتباها دي! ..أنا اللي كنت شايفاني كده، أنا اللي كنت حاسة بكل ده، أنا اللي كنت أكذِّب أي جملة حلوة تيجي وأقول أكيد بتجاملوني! .. أنا اللي كنت مخاصماني، ومش عارفة أشوف الحلو اللي فيّ، أنا اللي كنت أقلِّل من كل حاجة كبيرة وخطوة إيجابية كنت أعملها .. أنا اللي فضَّلت السكوت في مواقف كتير كانت محتاجة كلام؛ يمكن علشان أحافظ على رضاهم، ويمكن علشان مكنش عندي الجرأة أصلًا. ما أنا صغيرة بقى ومبعرفش أدافع عن نفسي.
مكانتش المرة دي مجرد صدفة، أو وقت كده كانت واخداني فيه الجلالة، لأ! .. ده كان الثمر اللي طرحته زرعتي، زرعتي أنا اللي زهَّرت بعد سنين جفاف، وسنين عجاف .. زرعتي اللي ياما فقدت فيها الأمل، بس ميأستش. والغريب أن دي طلعت أول حاجة فرجتني على نفسي الحقيقية!
أنا طلعت شاطرة قوي، مجتهدة جدًا، عندي مثابرة وقوة إرادة جميلة. وده بشهادة ناس كتير تخيلوا!
عايزة أقول لكم ايه اللي زرعته؟ وايه اللي ساعد الزرعة تطلع ثمر؟
1- أنا وقلمي وورقتي
في أول الطريق مشيت كتير لوحدي، أنا وقلمي وورقتي. كتبت، وتكلمت مع نفسي على الورق. لاحظت أعراض زي شعور بالقلة في مواقف معينة، خوف غير مبرر في مواقف تانية، سكوت في أوقات كانت محتاجة رد، عجز عن توصيل غضب أو ضيق، لوم للنفس وتقطيم، مقارنة مستمرة، محاولة لكسب رضا وموافقة ناس -خصوصًا لو كبار أو أحبهم-.
مع الحاجات دي بدأت أحس أن فيه حاجة غلط! ايه كل المشاعر السلبية دي؟ ليه أنا متكتفة كده؟
2- القراءة
بعدها بدأت أقرأ كتير؛ كتب عن العلاقات، الصورة الذاتية وازاي تتكون؟ ازاي تكون العلاقة الصحية مع الذات؟
3- سكة العلاج مع ناس متخصصة
ومن بعد تشخيص المرض مشيت كل سكك العلاج الممكنة: تكلمت مع ناس واعيين، سألت على قد ما قدرت، عيَّطت كتييير، بكيت اللي فاتني واللي ناقصني، دعيت ربنا في كل صلاة وكل صبح، دخَّلت نفسي في أنشطة كتير منها كان تطوعي؛ علشان أشوفني من تاني، أعرفني صح، أشوف محتاجة ايه، وايه اللي اتصلح وبقى كويس. اشتغلت شغلانات كتير ومختلفة، بعضها حبيته وبعضها لأ.
4- العلاقات الصحية
لحد ما ربنا بعت علاقات جميلة، قربت مني ناس حلوين وحقيقيين، شجعوا وشاوروا على الحلو؛ مشافوش الوحش أصلًا، أو شافوه وأدُوله حجمه الحقيقي مبروزوهوش. ناس منهم ساعدوني أقيم الأمور، ساعدوني أشوف أنه لسه فيه ناس حلوين وفيهم خير.
قبلت الألم والتكلفة والمسئولية، أَلَم فتح وتنضيف الجروح، ألم فتح خزاين الماضي، ألم تذكر مواقف وجعتني وشوهت صورتي عن نفسي.
دفعت تمن علاجي مش فلوس! على قد ما مجهود وطاقة، انكشاف وصدق مع النفس، ألم قبول اللي مش هينفع يتغير وأمشي شايلاه بس مش مكتفني، عايشة بيه في الحياة ومَسنُودة على قبول الخالق ليّ كده.
ابتديت حبة حبة أفهم، أكبر، أخف .. النهارده أنا مش زي امبارح .. لسه بعَافِر وأتخانق وأتكلم، لسه بَسْأل واتلغبط وأحتار .. لسه أقع وأقوم، وأحيانًا بتؤثِّر فيَّ طُرُق التقييم اللي مابكسبش فيها.
بس ماشية بشوية الأمل اللي طرحتهم زرعتي .. لسه بأدعي في صلواتي، وأطلب مساعدة .. لسه بَعرَفنِي وأحبني .. لسه مستنية ربنا الكبير اللي أعرفه يفتح لي طُرُق ويدخَّلني قلوب اللي هايحطهم في سكتي.
الغريب والطبيعي في نفس الوقت! أن لما ده حصل بدأت تظهر حاجات حلوة جديدة؛ صفات إيجابية عندي، اتبنت صداقات أقرب بناس مكنتش أحلم أنهم يكونوا صحابي، فرحت أني كبرت ونضجت زي ما أفرح بعيالي لما يكبروا، ويتعلموا حاجات جديدة.
مانا نسيت أقولكم؛ كل ده حصل لي وأنا أمّ، أمّ كانت خناقاتها ليل ونهار مع نفسها .. كل اللي طالع منها: يا رب مش عايزة أضرّ عيالي! احميهم مني، ساعدني ماحطش فيهم اللي اتعمل فيَّ.
يعني لسه مفاتش الأوان، لسه بتعلِّم زيُّهم بالظبط .. لسه بتعلِّم أكون أمّ لنفسي مش بس ليهم، أحِنّ وأطبطب وأدلَّع، وأنضبط وأجتهد وأشيل المسئولية.
أنا أختار بمَعُونة ربنا أقف في صف بنتي، أنا! .. أساعدها تكبر، تخفّ، تحلوّ، تُثمر وتُزهر، تكون مفيدة للي حواليها، تحب وتتحب وتتصالح على الحياة.
مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب